صباحاً يخدش صمت المكان صوت أنثوي صارخ.. أنت لا تعرف المغنية، لكن الصوت إضافة حقيقية للعفاريت الطالعة من رأسك.. "اسمع بس اسمع" تقول الأغنية، وأنت تتأفف وتقول في نفسك: ولماذا لا تسمع هذه التي تغني!!
لا أحد يعرف حتى هذه اللحظة لمن يكون الصوت، بإمكانك أن تتمهل قليلاً، وأنت تمشي بقدميك على أرضية الصالون، فدبيب قدميك يكدّر صفاء صوت هذه المغنية الخارج من بيت الجيران،
يمكنك أن تسأل ببعض المثاقفة والمزاج الهادئ عن هذه القدرة العجيبة على استبدال صوت فيروز بهذه المغنية المجهولة .. لستَ من أنصار باخ وشوبان وشوبنهاور وموتزارت، إنهم عباقرة، ولكن سعدون جابر أهم بالنسبة لك وذياب مشهور لا يقلّ قيمة عن هذا الأخير - بالمناسبة لا أحد يتذكر أن هذا الأخير هو "مغني فطومة" في مسلسل "صح النوم"، ولابأس من بعض النسيان مادام فنانٌ مثل سميح شقير يركن جانباً، ولا يتم تذكره إلا في الآلام القومية، وإذا شئت يمكن اعتبار أبو حسين التلاوي أسطورة في هذه السياقات، ولكنك لست أيضاً من أنصار هذه الأصوات، لكن سؤالك هذا لن يضيف شيئاً، فالمقارنات غير جائزة، ولا وقت لها أصلاً، فثمة جنّي في بيت الجيران في الصباح الباكر يستمع لهذا الصوت الصارخ .. ثمة إزعاج لا تستطيع مجابهته بإزعاج مضادّ.. هنا في العشوائيات لا تستطيع أن تطالب أحداً بالصمت، فإيقاع حياة الناس الراكد لا يحركه إلا مثل هذا الصخب، ولذلك تتخلى باستسلام كامل عن فكرة مشاجرة صباحية مع ابن الجيران، وتتحلّى بقليل من الصبر أنت تفتقده أصلاً، يختفي الصوت فجأة، ياه!!! الآن يمكنك شرب القهوة بهدوء، ولكن فجأة ينبثق الصوت مرة أخرى .. إنه من هذا البيت حيث تعيش أنت .. يمكنك أن تحتجّ هنا، تصرخ مثلاً، تكسر فنجان القهوة، تزعق .. وأي شيء آخر، ولكنك تستنتج أن الأغنية صادرة من "موبايل" شقيقك الأصغر، وسيدفعك الفضول إلى إيقاظه لسببين: الأول هو إخراس "موبايله" اللعين، والثاني معرفة المغنية، ومن تحت الغطاء يأتي القول الفصل: إنها سارية السواس.
إذا كنت متوجهاً إلى العمل، وحيث أنت في "السرفيس" يتاح لك سماعها بإمعان .. لا تقل لي إنك تفكر في أن تطلب من السائق إيقاف الأغنية، فأنت لست أحمقاً لتطلب ذلك من ثور بري هائج، لأنه سيكسّر الدنيا على رأسك، فطلبات كهذه في أعراف "الشوفيرية" (ج. شوفير)، تتعلق بالرجولة والكرامة.
فما أن تنزل من السيرفيس حتى تسمع الأغنية مرة أخرى، يمكنك أن تقول مثلاً عبارة من نوع "ذهب الذين تحبهم ذهبوا"، يمكنك أيضاً أن تصفق كفاً بكف، وأن تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله: ذهبت جهود كجهود احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية سدىً .. وهكذا وداعاً أنور إبراهيم، وأميمة الخليل، وعابد عازرية، وريم بنا، ومارسيل خليفة، ومعلومة بنت الميداح، والسيمفونية، والفلهارمونية و..و..و.. وبحسب الشعبي الدارج: "كأنك يا أبو زيد ما غزيت".
تدخل إلى مكان العمل، الشباب يتجمعون على شاشة الكمبيوتر، إنه الصوت ذاته، فتاة حسناء تتحدى النوّاسات في قدرتها على الاهتزاز، إنها ترقص بجنون، ثمة في حركاتها شغف تاريخي بالرقص، يخطر على بالك تحية كاريوكا أو الأخريات، ممن حققن سمعة كبيرة في هذا السياق!! لقد كتب إدوارد سعيد عن تحية كاريوكا، لقد كانت المرأة علامة فارقة من وجهة نظر المفكر الفلسطيني، لم تكن تحية كاريوكا مجرد فقاعة لا تلبث أن تختفي!! لحظة!! ماذا عن سارية السواس؟ إنها تسلب عقول الجميع! ولكن كيف؟!! أهي تلك القدرة على الرقص لساعات دون كلل، أم كلمات الأغنيات التي مسّت الناس في الصميم!! "وين البارحة كنتي سهرانة يا بنت الكلب بشارع مساكن برزة ولا بالتل"، تباً للبلاغة، ماهذا الجنون الذي يدفع جمهوراً ما ليجعل مغنية كسارية السواس في كل مكان!! تحت الجسور، في الشوارع صورها تملأ الدنيا، انتبهوا جيداً.. سارية من امامكم، وسارية من ورائكم ولا مفرّ فسارية السواس تستعد لاجتياح العالم.!!!
--------------------------------------------------------------------------------