استقر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قبيلة«بني سعد» خمسة أعوام زارته أُمّه خلالها ثلاث مرّات، وقامت حليمة برعاية شوَونه خير قيام،وبالغت في كفالته والعناية به، كما حافظ فيها (صلى الله عليه وآله وسلم) على فصاحته و بلاغته، وعندما رجع إلى أُمّه(عليها السلام) فكّرت بزيارة المدينة وقبر زوجها عبداللّه، ورافقتهم «أُمّ أيمن» حيث أمضوا هناك شهراً، رأى فيه النبيّ «صلى الله عليه وآله وسلم» بيت أبيه الذي توفّي فيه ودفن. إلاّ أنّ أُمّه العزيزة توفّيت أيضاً في الطريق إلى مكة بمنطقة الاَبواء(2) ممّا دفع الجميع إلى إظهار المحبة له والعناية به، خاصةًجدّه «عبد المطلب» الذي أحبه أكثر من أولاده.
____________
1 . للتوسع في هذا الموضوع، يرجع إلى: معالم التوحيد في القرآن الكريم.
2 . السيرة الحلبية: 1|105.
( 37 )
وربما كان يُتم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في صالحه، فقد أراد اللّه تعالى منه أن يهيّئه لمواجهة المستقبل بشدائده و مصاعبه ومتاعبه،أو أراد ألا يكون في عنقه طاعة لاَحد، فنشأ حراً من كلّ قيد، يصنع نفسه بنفسه، وليتضح أنّ نبوغه ليس نبوغاً بشرياً عادياً ومألوفاً، وأنّه لم يكن لوالديه أيّ دخل فيه وفي مصيره، فتكون بالتالي عظمته الباهرة نابعة من مصدر الوحي وليس من العوامل العادية المتعارفة.
وقد فاجأت الحياةُ نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الحزينة بوفاة جدّه العظيم«عبد المطلب» وهو في الثامنةمن عمره، فبكى عليه «صلى الله عليه وآله وسلم» كثيراً وظلّت دموعه تجري حتى وُري في لحده.(1)
كفالة أبي طالب
كان أبو طالب أخاً لوالد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أُمّواحدة، وقد تقبّل كفالة النبيص وتحمّل المسوَولية بفخر واعتزاز.
وفي العاشرة من عمره، شارك النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عمّه في إحدى الحروب التي وقعت في الاَشهر الحرم فسمّيت بحرب الفجار، إلاّ أنّ «اليعقوبي» ينفي في تاريخه اشتراك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي طالب فيها.(2)
ورافق عمّه في سفره إلى الشام وهو في ربيعه الثاني عشر، شاهد فيها «مدين، ووادي القرى، وديار ثمود»، واطّلع على مشاهد الشام وطبيعتها الجميلة.
____________
1 . تاريخ اليعقوبي :2|10 حول سيرة عبد المطلب، أنّه كان موحداً لا وثنياً، وإنّ الاِسلام قد أخذ الكثير من سننه.
2 . تاريخ اليعقوبي:2|15.
( 38 )
إلاّ أنّ أحداث «بصرى» غيّرت برنامج رحلة أبي طالب، ودفعته إلى العودة إلى مكّة، وهي الاَحداث المرتبطة بمقابلة الراهب«بحيرا» بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وما تنبّأ عنه بقوله: «إنّه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، نجده في كتبنا وما روينا عن آبائنا، هذا سيّد العالمين، هذا رسول ربّ العالمين يبعثه رحمةً للعالمين. احذر عليه اليهود لئن رأوه وعرفوا ما أعرف ليقصدُنّ قتله».(1)
أمّا ما قيل عن تلك المقابلة من آراء متطرفة، وبأنّالراهب بحيرا علّم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أُمور دينه التي درسها من كتب الاِنجيل والتوراة، فهو فرية المستشرقين والكارهين للاِسلام، إذ أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يمكث هناك أكثرمن أربعة أشهر هي فترة رحلة الشام عند العرب، ثمّ إذا كان هذا الراهب يمتلك هذه الكمية من المعلومات الدينية والعلمية التي عرضها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فلماذا لم يقم هو بنشرها، فيأخذ شهرته منها؟ ثمّ لماذا اختار محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) دون غيره ليعرض عليه تلك المعلومات بالرغم من توافد القبائل عليه دوماً؟
إنّ الآيات القرآنية تصرح بأنّ الاَخبار الغيبية وصلت إلى النبي ص عن طريق الوحي فقط، فلم يكن على عِلمٍ بها مطلقاً. كما أنّ كُتب التوراة والاِنجيل لا تذكر أُموراً طيّبة عن الاَنبياء، في حين أنّ القرآن الكريم يجلّهم ويعظمهم ويكرمهم،على عكس ما جاء عنهم في كتب هوَلاء.
ولذا لم يعقل أن يقتبس القرآن الكريم من تلك الكتب وبينهما بُعد المشرقين. كما أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يشرح تلك القصص والقضايا للناس قبل الوحي والرسالة: (قُلْ لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلوتُهُ عَلَيْكُمْ ولا أَدراكُمْ بهِ فَقَدْ لَبِثتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلهِِ أَفَلا تَعْقِلُون) .(2)
____________
1 . تاريخ الطبري:2|32؛ السيرة الحلبية: 1|180.
2 . يونس:16.
( 39 )
فالآية توَكد على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لبث في قومه فترة طويلة لم يتلو فيها سورة من القرآن ولا آية من آياته، فكلّ ما أخبر به هو ممّا أوحى به اللّه تعالى إليه بعد أن بعثه بالرسالة.(1)