بسم الله الرحمن الرحيم
كيف ولماذا نزع الشيطان عن آدم وزوجه لباسهما؟
"الحياء نصف الإيمان" و "الحياء من الإيمان" حديثان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول درجات الحياء أن يستر المرء عورته، حتى عن أقرب الناس إليه، لأن الإنسان كائن اجتماعي، يعيش مع غيره في سكنه، ومحكوم عليه التعامل مع غيره خارج بيته، في أمور وأشغال كثيرة.
لقد عرف إبليس ما في الأرض ومن فيها، فليس فيها عاقلاً إلا جنس الجن الذي منه إبليس، وليس فيها أحد يستر عورته، فكل دواب الأرض لا تعرف ستر عورتها إلا بالقدر الذي ستر منها خلقة، وأما الجن فلا ندري أكانت تستر عورتها أم لا قبل هبوط آدم، أما بعد وجود الإنسان في الأرض ودخول بعض الجن في اليهودية أو النصرانية أو الإسلام فنحكم أنهم يسترون عوراتهم لوجوب ذلك في دين الله الذي أنزله على رسله، وليس هناك من رسل إلا من الإنس، والجن تبع لهم.
لقد جعل الله تعالى ثلاث حرمات لا يصح للأبناء أن يدخلوا فيها على الآباء إلا بعد الاستئذان؛ وهي: قبل صلاة الفجر، وعند وضع ثيابهم في الظهيرة، وبعد صلاة العشاء، لئلا تنكشف عورات الآباء على الأبناء، دين ينظم كل علاقات الإنسان بغيره، ويضبطها لينتظم الفرد والمجتمع في خلق رباني واحد.
اللباس أنزله الله لستر العورة؛ قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا .... (26) الأعراف، ومادة "نزل" تستعمل في وصول إليك ما لا تستطيع أنت الوصول إليه، فكل ما استعمله الإنسان في اللباس مأخوذ من حيوان أو نبات؛ كالجلد، والشعر، والصوف، والوبر، والحرير، والقنب، والقطن، وغير ذلك، وهذه مما لا يستطيع البشر صنعه، وحتى صنع الخيوط البلاستيكية هي من البترول، والبترول مخلق من مواد عضوية لكائنات نباتية وحيوانية؛
قال تعالى: (وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) النحل.
وقال تعالى: (وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) فاطر،
وقال تعالى: (يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ (53) الدخان، وهما من غليظ الديباج ورقيقه، مما عرف مثيله في المسمى في الدنيا.
اللباس فوق ستر العورة هو لحماية الجسد بالصيف والشتاء، قال تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) النحل.
ومنه لحماية الجسد في الحرب؛
قال تعالى: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ (80) الأنبياء.
ومنه للزينة، قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ..... (31) الأعراف.
واختلف اللباس والزينة باختلاف الناس وألوانهم وثقافاتهم، ومعتقداتهم، فاختلف لذلك أشكال اللباس، وألوانها، وما تُزين به، واختلفت بما يناسب الأعمار، والرجال والنساء والأطفال من الجنسين، وطبيعة المكان، واختلاف الفصول، وما يناسب الأهل والقبيلة وأهل البلد، وما يخالف الأعداء.
ويميز اللباس بين الغني والفقير، وبين أهل الوجاهة والسيادة، وأهل الصنعة والعمل، فاختلاف اللباس وراءه اختلاف في الثقافات واختلاف في الصناعات، والاختلاف .... وتمايز الناس بعضهم عن بعض من الحوافز للناس في التقدم في الصناعات والعلوم والوسائل التي يستعملونها.
وستر العورة أمر متعلق يبين مدى ارتباط الفرد بعائلته وقبيلته والأمة التي ينتمي إليها، وقدسية العلاقة بين الجنسين، والسعادة في وجود الذرية، وإعدادها لتحمل المسؤولية في امتداد الآباء بوجود الأبناء، واستمرار القيم والعادات والتقاليد، وحفظ الموروثات ... والأبناء إذا لم يكونوا امتدادًا لآبائهم في أنفسهم وفي عقائدهم فإن العناء في تربيتهم يصبح من باب العذاب لهم دون جدوى من تربيتهم، وخاصة إذا لم يتولوا العناية بهم كبارًا، ويتولى ذلك هيئات ومؤسسات بعيدًا عن الأبناء، فعزفت المجتمعات المنحلة عن إنجاب الأبناء أو الاكتفاء بواحد فقط.
ذكر الله تعالى أنواعًا من اللباس يستتر خلفها الإنسان:
- الليل بظلامه لباس للناس؛ قال تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) النبأ
- والجوع العام الذي يلزم أهل القرية في مساكنهم؛ فلا أرضًا يزرعون فيها، ولا ماشية يخرجون بها إلى المرعى، والخوف الذي يلزم الناس أماكنهم ليحتموا بها خشية على أنفسهم؛ جعلا لباسًا؛
قال تعالى: (فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112) النحل.
- وجعل الله تعالى الزواج لباسًا يستر كلا منهما بحمايتهما بهذه العلاقة من الرذيلة، وما يتبعها من فساد وأمراض؛ قال تعالى: (... نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ(187) البقرة
- وجعل تعالى التقوى لباسًا لأنها تحمي الإنسان من الوقوع في كثير من الآثام، وتحميه من نار جهنم يوم القيامة؛ قال تعالى: (وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) الأعراف.
وجعل تعالى تفرق الناس وتشيعهم لباسًا: (..أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ..(65) الأنعام، فكل يحتمي بشيعته ضد بأس الآخرين.
فاللباس للإنسان حماية للسوءة فوق سترها، وحفظ للعرض، فقط سبيل الشهوة والإثارة والفساد حماية للنفس، وحماية للذرية من الفساد والضياع.
لقد نهى الله تعالى آدم وزوجه من الاقتراب من الشجرة، لأن مجرد القرب منها خروج من الجنة -كما بينها في المبحث الأول- ولن يقربا منها إلا لهدف الأكل منها، وهما ليسا بحاجة لذلك، وقد أبيح لهما الأكل من الجنة رغدًا حيث يشاءا .... ولكنهما نسيا نهي الله لهما، وخرجا إلى الشجرة، فذكر تعالى أنهما ذاقا الشجرة وأنهما أكلا من الشجرة ... وكلا منهما جاء بما يناسب عرض الموقف الذي ذكرا فيه؛ ففي سورة الأعراف؛ يعرض إبليس على آدم عرضه المغري: (قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى (120) طه، فيستجيب له آدم ويرغب في ذلك ويطلب منه أن يدله على الشجرة ليأكل منها: (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) طه، وفي القصة اختصار دل عليه الأكل وهو تناول من الشجرة أكثر من التذوق لها ... فناسب شدة الرغبة ذكر الأكل، وهو أشد من التذوق.
أما في سورة الأعراف فالأسلوب اختلف وأظهرت توجس آدم؛ قال تعالى: (وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) .... فاختلق إبليس سبب النهي عن الشجرة، وأحسن أن اختلاقه محل الشك والريبة فأكده بالقسم الكاذب: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) ... واستمر التغرير بهما وهما يهبطان إلى الشجرة: (..فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ..) ... فناسب مع هذا التوجس التذوق لمعرفة الطعم قبل الأكل، وهو بداية الأكل: (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ (22) الأعراف.
ذكر تعالى في السورتين وسوسة الشيطان لهما ولكن في (الأعراف) زاد تعالى: (..لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا...(20) فكان ذلك هدفًا لإبليس قبل مخاطبتهما، وأنه كان يعرف أن الأكل من الشجرة موصل إلى ذلك، فهل حدث لإبليس مثل ذلك؟، وإن كان الأمر كذلك فهل ستر عورته مثل ما فعل آدم أم بقيت مكشوف العورة؟ ... لم يخاطب الله تعالى آدم وزوجه حتى سترا عوراتهما ... ولم يذكر تعالى أنه خاطب إبليس بعد طرده من الجنة.... أم أن الشجرة ليس من جنس طعام إبليس! ... فكيف عرف إذن أنها الأكل منها يبدي السوءة؟
ماذا فعل الأكل من الشجرة بآدم وزوجه؟!
هل سبب الأكل من الشجرة حساسية لهما؟! .. فمن شدة حك الجلد وهرشه لم يطيقا لباسهما فنزعه الشيطان عنهما برضاهما! ...
أم أن الحساسية ورمَّت أجسامهما، فضاقت عليهما فنزعهما الشيطان عنهما بطلب منهما؟! ...
أم أن الأكل من الشجرة أسكرهما وخدرهما ففقدا وعيهما فاستغل الشيطان حالهما فنزع عنهما لباسهما؟!
النزع فعل قام به الشيطان: (يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا ... (27) الأعراف.
الرأي الأخير هو الأقرب للتصور .... والله تعالى أعلم ... فإن ستر العورة يحتاج إلى قليل من اللباس، ولم يبق لهم من اللباس شيئًا، ولماذا لم يُبقيا من لباسهما شيئًا يستر عوراتهما؟!، الأقرب أن الشيطان نزع لباسهما في غفلة حدثت لهما وأخفاه عنهما ..
أما القول بأن لباسهما من نور .. فلو كان الأمر كذلك فما للشيطان من سبيل في نزعه ... وإن كان الشيطان جرب الأكل من الشجرة ... فقد أفاق منها بعد ذلك وعرف ضررها.
وماة "ذاق" استعملت في ذوق العذاب والبأس والوبال والخزي، والجوع والخوف.
واستعملت في ذوق الرحمة، فتبع من ذائقها؛ إنكار البعث، والكفر بآيات الله، والفرح، والبخل، والإشراك بالله ... فكانت فتنة له فقد فيها إيمانه واتزانه وأسكرته النعمة وغره بسط الرحمة له، فكان منه ما فيه غضب الله وسخطه، فإذا نزعت منه يئس وقنط وكفر.
فنفهم من استعمال الذوق في حدوث المضرة، وفقدان العقل واتزانه وسوء تقديره .. وتخبط المعذب وتقلبه في عذابه وعدم استقراره.... ولا يخرج ما حدث لآدم وزوجه عن ذلك ... فنزع الشيطان عنهما لباسهما وهم في غير وعي لما يفعله الشيطان بهما، فلما انطلقا إلى الجنة ليسترا سوءاتهما بورق الجنة، ولولا أن كشف السوءة أمر عظيم عند الله، لما سمح لهما بستر عوراتهما من ورق الجنة.
أما مادة "نزع" فكان استعمالها في القرآن في كشف الشيء وظهوره:
- ففي نزع الملك من يد صاحبه، يجعله مكشوفًا لا شيء يحيط به ويحميه،
- ونزع الغل من صدور أهل الجنة يجعل صدورهم سليمة لا يخفون فيها على إخوانهم شيئًا، فباطنهم كظاهرهم في المحبة، وحسن التعامل والعشرة.
- ونزع الرحمة - وهي عطاء الله لعباده- من يد من أعطيت له، يجعله فقيرًا محتاجًا يخرج للناس، يسألهم العمل أو الإحسان إليه،
- ونزع موسى عليه السلام يده من جيبه، أخرجها؛ فإذا هي شديدة الانكشاف بشدة بياضها،
- ونزع يوم القيامة من كل شيعة أشدهم عتيًا، ونزع من كل أمة شهيدًا، لكشف ما كانت عليه كل امة من الضلال،
- ونزع الريح للكفار من عاد كشفهم بخلعهم من كل مكان يستترون ويحتمون به.
ففي كل هذه الأمثلة المستعملة في القرآن كان الانكشاف وكانت معه الشدة، فنزع الشيطان للباسهما يدل على شدة منه في فعله لكشف أجسادهما، وأهم ما في الانكشاف كان انكشاف سوءاتهما ليريهما ذلك، وقد جاء الفعل بصيغة المضارع لا الماضي مع أن الحدث قديم جدًا ليبين الله تعالى لنا أن فعل الشيطان مستمر .... ولم يتوقف ...
وفقد الحياء بين الجنسين انحطاط لهما في الحياة الدنيا .. ولا مكان للعراة في الجنة.
كان هذا موضوعنا الخامس في هذه السلسلة ... وبقي الحديث عن خلافة آدم إن شاء الله تعالى
أبو مسلم / عبد المجيد العرابلي
مواضيع لها علاقة بالموضوع ومتتمة له
أين الشجرة التي أخرجت آدم من الجنة ؟
شجرة الإبعاد وعيد البعد
كيف غوى إبليس آدم من خارج الجنة؟
كيف نزع الشيطان عن آدم وزوجه لباسهما؟ ولماذا ؟
هل أسكن آدم جنة الخلد أم جنة في الأرض؟
هل خلف آدم عليه السلام ما يسمى الإنسان الأول؟