المرجعية العلمي
اختلفت الأمة الإسلامية بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم في أمر الخلافةـ و إن كان اللائق بها عدم الاختلاف فيها،للنصوص الصحيحة الصادرة عنه في مختلف المواردـ و قد استقصينا البحث فيها في مبحث الإمامة من هذا الجزء.
و الذي نركز عليه في هذا البحث هو تبيين المرجع العلمي بعد رحيلهـ سواء أكانت الخلافة لمن نص عليه النبي صلى الله عليه و آله و سلم في يوم الغدير أو من اختاره بعض الصحابة في سقيفة بني ساعدةـ .
و المراد من المرجع العلمي من ترجع إليه الأمة في أصول الدين و فروعه،و يصدر عنهم في تفسير القرآن و تبيين غوامضه،و يستفهم منه أسئلة الحوادث المستجدة.
يقول سبحانه:و الذي أوحينا إليك الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير
ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه و منهم مقتصد و منهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضلالكبير. (1)
المراد من الكتاب في قوله:أوحينا إليك الكتاب هو القرآن بلا شك و كونه حقا لأجل براهين قطعية تثبت أنه منزل من ربه فان قوانينه تنسجم مع الفطرة الإنسانية،و القصص الواردة فيها مصونة من الأساطير،و المجموع خال من التناقض إلى غير ذلك من القرائن الدالة على أنه حق.و مع ذلك هو مصدق لما بين يدي الرسول صلى الله عليه و آله و سلم من الكتاب السماوي .
هذا هو مفاد الآية الأولى.
ثم إنه سبحانه يقول:ثم أورثنا الكتاب المراد من الكتاب هو القرآن:لأن اللام للعهد الذكري أي الكتاب المذكور في الآية المتقدمة،و الوراثة عبارة عما يستحصله الإنسان بلا مشقة و جهد،و الوارث لهذا الكتاب هم الذين أشير إليهم بقوله:الذين اصطفينا من عبادنا،فلو قلنا بأن«من»للتبيين فيكون الوارث هو الأمة الإسلامية جميعا،و لو قلنا:إن«من»للتبعيض فيكون الوارث جماعة خاصة ورثوا الكتاب.
و الظاهر هو التبيين كما في قولنا:و سلام على عباده الذين اصطفى (2) .
و لكن الأمة الإسلامية صاروا على أقسام ثلاثة:
أ:ظالم لنفسه:الذين قصروا في وظيفتهم في حفظ الكتاب و العمل بأحكامه،و في الحقيقة ظلموا أنفسهم،فلذلك صاروا ظالمين لأنفسهم.
ب:مقتصد:الذين أدوا وظيفتهم في الحفظ و العمل لكن لا بنحو كاملبل قصروا شيئا فيهما .
ج:سابق بالخيرات بإذن الله:هم الجماعة المثلى أدوا وظائفهم بالحفظ و العمل على النحو الأتم،فلذلك سبقوا إلى الخيرات كما يقول سبحانه:سابق بالخيرات بإذن الله.
و على هذا فإن ورثة الكتاب في الحقيقة هم الطائفة الثالثة أعني الذين سبقوا بالخيرات .
و أما ما هو المراد من الطائفة الثالثة،فيتكفل الحديث لبيان ملامحها.
روى الكليني عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في تفسير الآية انه قال:«السابق بالخيرات الإمام،و المقتصد العارف بالإمام،و الظالم لنفسه الذي لا يعرف الإمام».
و روي نفس الحديث عن الإمام الرضا عليه السلام.
و هناك روايات أخرى تؤيد المضمون فمن أراد فليراجع (3) .
ثم إن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قد أوضح ورثة الكتاب في حديثه المعروف الذي اتفق على نقله أصحاب الصحاح و المسانيد.
أخرج مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم رضي الله عنه،قال:قام رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يوما فينا خطيبا،بماء يدعى خما بين مكة و المدينة،فحمد الله تعالى،و أثنى عليه و وعظ و ذكر،ثم قال:
«أما بعد:ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب،و أنا تارك فيكم ثقلين:أولهما كتاب الله فيه الهدى و النور،فخذوا بكتاب الله و استمسكوا به»،فحث على كتاب الله و رغب فيه،ثم قال:«و أهل بيتي،أذكركم الله في أهلبيتي،أذكركم الله في أهل بيتي،أذكركم الله في أهل بيتي» (4) .
هذا ما أخرجه مسلم،و من الواضح انه لم ينقل على وجه دقيق،و ذلك لأن مقتضى قوله:«أولهما»،أن يقول النبي صلى الله عليه و آله و سلم:ثانيهما أهل بيتي،مع أنه لم يذكر كلمة«ثانيهما» .
و قد رواها الإمام أحمد بصورة أفضل مما سبق،كما رواه النسائي في فضائل الصحابة كذلك .
أخرج أحمد في مسنده عن أبي الطفيل،عن زيد بن الأرقم،قال:لما رجع رسول الله من حجة الوداع و نزل غدير خم،أمر بدوحات فقممن،ثم قال:«كأني قد دعيت فأجبت:إني قد تركت فيكم الثقلين،أحدهما أكبر من الآخر:كتاب الله و عترتي أهل بيتي،فانظروا كيف تخلفوني فيهما،فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض».
ثم قال:«إن الله مولاي،و أنا ولي كل مؤمن»،ثم أخذ بيد علي،فقال:«من كنت وليه فهذا وليه،اللهم وال من والاه و عاد من عاداه» (5) .
هذه إلمامة سريعة بحديث الثقلين،و من أراد أن يقف على أسانيده و متونه فعليه أن يرجع إلى الكتب المؤلفة حوله،و أبسط كتاب في هذا الموضوع ما ألفه السيد المجاهد«مير حامد حسين»حيث خص أجزاء من كتابه«العبقات»لبيان تفاصيل أسانيده و مضمونه،و قد طبع ما يخص بالحديث في ستة أجزاء.
كما بسط الكلام في أسانيده و أسانيد غيره سيد مشايخنا البروجردي(1292ـ 1380 ه)في كتابه«جامع أحاديث الشيعة»،فقال بعد استيفاءنصوص الحديث و أسانيده:و قد ظهر مما ذكرنا ان النبي صلى الله عليه و آله و سلم أوجب على الأمة قاطبة التمسك بالعترة الطيبة في الأمور الشرعية و التكاليف الإلهية،و أكد وجوبه و شدده و أوثقه و كرره بكلمات عديدة و ألفاظ مختلفة بحيث لا يمكن إنكاره و لا يجوز تأويله،و قد اكتفينا بذلك و أن كثيرا من طرق الحديث قد ضمن مضافا إلى المذكورات،ما يدل على حجية أقوالهم و وجوب اتباعهم و حرمة مخالفتهم. (6)
و الجدير بالمسلمين التركيز على مسألة تعيين المرجع العلمي بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم،إذ لا يسوغ في منطق العقل أن يترك صاحب الرسالة،الأمة المرحومة بلا راع،و هو يعلم أنه صلى الله عليه و آله و سلم برحيله سوف يواجه المسلمون حوادث مستجدة و وقائع جديدة تتطلب أحكاما غير مبينة في الكتاب و السنة،فلا محيص من وجود مرجع علمي يحل مشاكلها و يذلل أمامها الصعاب،و قد قام صلى الله عليه و آله و سلم ببيان من يتصدى لهذا المنصب بحديث الثقلين.
و من العجب أن كثيرا من المسلمين يطرقون كل باب إلا باب أئمة أهل البيت عليهم السلام مع أنه صلى الله عليه و آله و سلم لم يذكر شيئا مما يرجع إلى غير هؤلاء،فلا أدري ما هو وجه الإقبال على غيرهم و الإعراض عنهم؟!
قال السيد شرف الدين العاملي:و الصحاح الحاكمة بوجوب التمسك بالثقلين متواترة،و طرقها عن بضع و عشرين صحابيا متضافرة.و قد صدع بها رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم في مواقف له شتى.
تارة يوم غدير خم كما سمعت،و تارة يوم عرفة في حجة الوداع،و تارة بعد انصرافه من الطائف،و مرة على منبره في المدينة،و أخرى في حجرته المباركة فيمرضه،و الحجرة غاصة بأصحابه،إذ قال:«أيها الناس يوشك أن أقبض قبضا سريعا فينطلق بي،و قد قدمت إليكم القول معذرة إليكم ألا إني مخلف فيكم كتاب الله عز و جل و عترتي أهل بيتي»،ثم أخذ بيد علي فرفعها،فقال :«هذا علي مع القرآن،و القرآن مع علي،لا يفترقان حتى يردا علي الحوض».
و قد اعترف بذلك جماعة من أعلام الجمهور،حتى قال ابن حجر:ثم اعلم أن لحديث التمسك بهما طرقا كثيرة وردت عن نيف و عشرين صحابيا.
قال:و مر له طرق مبسوطة في حادي عشر الشبه،و في بعض تلك الطرق انه قال:ذلك بحجة الوداع بعرفة،و في أخرى انه قاله بالمدينة في مرضه،و قد امتلأت الحجرة بأصحابه،و في أخرى انه قال:ذلك بغدير خم،و في أخرى انه قال:ذلك لما قام خطيبا بعد انصرافه من الطائف.
قال:و لا تنافي إذ لا مانع من أنه كرر عليهم ذلك في تلك المواطن و غيرها اهتماما بشأن الكتاب العزيز و العترة الطاهرة.
و حسب أئمة أهل العترة الطاهرة أن يكونوا عند الله و رسوله بمنزلة الكتاب،لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه.و كفى بذلك حجة تأخذ بالأعناق إلى التعبد بمذهبهم،فان المسلم لا يرتضي بكتاب الله بدلا،فكيف يبتغي عن أعداله حولا. (7)
تعليقات:
1ـ فاطر:31ـ .32
2ـ النمل: .59
3ـ البرهان في تفسير القرآن:3/ .363
4ـ صحيح مسلم:4/1873 برقم 2408،ط عبد الباقي.
5ـ المسند الجامع:5/505 برقم .3828
6ـ جامع أحاديث الشيعة:1/131ـ .132
7ـ المراجعات:المراجعة رقم .8
أهل البيت(ع) سماتهم و حقوقهم في القرآن الكريم ص 119
مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني