الكاتب : العلامة المُحقق الشيخ علي الكوراني العاملي
هذه الدراسة القيمة هي إحدى فصول كتاب " عصر الظهور " للعلامة المُحقق الشيخ علي الكوراني العاملي ( حفظه الله ) .
العوامل المساعدة للإمام المهدي عليه السلام في هداية الشعوب
من الطبيعي أن يتساءل المرء : كيف سيتمكن الإمام المهدي عليه السلام من تعميم الإسلام على الشعوب غير المسلمة ، مع ما هي فيه من حياة مادية بعيدة عن الإيمان و القيم الروحية ، و نظرة سيئة إلى الإسلام و المسلمين ؟!
لكن ينبغي الإلتفات إلى عوامل كثيرة عقائدية و سياسية و اقتصادية تساعد الإمام المهدي عليه السلام في دعوته ، تقدم بعضها في حركة ظهوره عليه السلام .
فمن ذلك أن شعوب العالم تكون قد جربت ـ و قد جربت ـ الحياة المادية البعيدة عن الدين ، و لمست لمس اليد فراغها و عدم تلبيتها لفطرة الإنسان و إنسانيته . و هي حقيقة يعاني منها الغربيون و يجهرون بها !
و منها ، أن الإسلام دين الفطرة ، و لو فَسح الحكام لنوره أن يصل إلى شعوبهم على يد علماء و مؤمنين صادقين ، لدخل الناس فيه أفواجاً .
و منها ، الآيات و المعجزات التي تظهر لشعوب العالم على يد المهدي عليه السلام ، و من أبرزها النداء السماوي كما تقدم .
و هذه الآيات و إن كان تأثيرها على الحكام موقتاً أو ضعيفاً أو معدوماً و لكنها تؤثر على شعوبهم بنسب مختلفة .
و لعل من أهم عوامل التأثير عليهم انتصارات الإمام المهدي عليه السلام المتوالية ، لأن من طبع الشعوب الغربية أنها تحب القوي المنتصر و تقدسه ، حتى لو كان عدوها . فكيف إذا كانت له كرامات و معجزات .
و منها ، نزول المسيح عليه السلام و ما يظهره الله تعالى على يده من آيات و معجزات للشعوب الغربية و شعوب العالم ، بل إن دوره الأساسي و عمله الأساسي يكون بينهم ، و من الطبيعي أن تفرح به الشعوب الغربية و حكامها و يؤمن به الجميع أول الأمر ، حتى إذا بدأ يظهر ميله إلى الإمام المهدي عليه السلام و الإسلام تبدأ الحكومات الغربية بالتشكيك و التشويش عليه ، و تنحسر موجة تأييده العارمة ، و يبقى أنصاره من الشعوب الغربية ، و يحدث فيهم التحول العقائدي و السياسي حتى يكونون تياراً في بلادهم .
و منها ، العوامل الإقتصادية ، و ما يصل إليه العالم من الغنى و الرفاهية على يد الإمام المهدي عليه السلام فينعم الناس في زمنه نعمة لا سابقة لها في تاريخ الأرض و شعوبها ، كما تذكر الأحاديث الشريفة ، و من الطبيعي أن يكون لذلك تأثير هام على تلك الشعوب .
و هذه لمحات عن الحياة في عصر المهدي عليه السلام :
تطوير الإمام عليه السلام للحياة المادية و الرفاهية :
من الأمور البارزة في أحاديث المهدي عليه السلام التقدم التكنولوجي في الدولة العالمية التي يقيمها ، فإن نوع الحياة المادية التي تتحدث عنها النصوص الشريفة في عصره عليه السلام ، أعظم من كل ما عرفناه في عصرنا ، و مما قد يتوصل إليه تطور العلوم بالجهود البشرية العادية . و فيما يلي بعض ما ورد في ذلك :
يستخرج كنوز الأرض و يقسمها على الناس :
و الأحاديث في ذلك كثيرة ، منها ما ورد عن النبي صلى الله عليه و آله قال: " تخرج له الأرض أفلاذ أكبادها ، و يحثو المال حثواً و لا يعده عداً " [1] .
و أفلاذ أكبادها أي كنوزها ، و في رواية : " حتى يخرج منها مثل الأسطوانة ذهباً " .
و حديث يحثو المال حثواً أو حثياً و لا يعده عداً ، مشهور في مصادر الفريقين ، و هو يدل على الرخاء الإقتصادي الذي لا سابقة له ، و على نفسية الإمام المهدي عليه السلام السخية ، المحبة للناس .
و عن الإمام الباقر عليه السلام قال : " إِذَا قَامَ قَائِمُ أَهْلِ الْبَيْتِ قَسَّمَ بِالسَّوِيَّةِ وَ عَدَلَ فِي الرَّعِيَّةِ ، فَمَنْ أَطَاعَهُ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ، وَ مَنْ عَصَاهُ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ ، وَ إِنَّمَا سُمِّيَ الْمَهْدِيَّ لِأَنَّهُ يُهْدَى إِلَى أَمْرٍ خَفِيٍّ ، وَ يَسْتَخْرِجُ التَّوْرَاةَ وَ سَائِرَ كُتُبِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ مِنْ غَارٍ بِأَنْطَاكِيَةَ ، وَ يَحْكُمُ بَيْنَ أَهْلِ التَّوْرَاةِ بِالتَّوْرَاةِ وَ أَهْلِ الْإِنْجِيلِ بِالْإِنْجِيلِ ، وَ بَيْنَ أَهْلِ الزَّبُورِ بِالزَّبُورِ ، وَ بَيْنِ أَهْلِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ ، وَ يُجْمَعُ إِلَيْهِ أَمْوَالُ الدُّنْيَا مِنْ بَطْنِ الْأَرْضِ وَ ظَهْرِهَا ، فَيَقُولُ لِلنَّاسِ تَعَالَوْا إِلَى مَا قَطَعْتُمْ فِيهِ الْأَرْحَامَ ، وَ سَفَكْتُمْ فِيهِ الدِّمَاءَ الْحَرَامَ ، وَ رَكِبْتُمْ فِيهِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ ، فَيُعْطِي شَيْئاً لَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ كَانَ قَبْلَهُ ، وَ يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا وَ قِسْطاً وَ نُوراً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَ جَوْراً وَ شَرّاً " [2] .
تنعم الأمة في زمانه و تعمر الأرض :
عن النبي صلى الله عليه و آله قال : " تنعم أمتي في زمن المهدي نعمة لم ينعموا مثلها قط ، ترسل السماء عليهم مدراراً ، و لاتدع الأرض شيئاً من النبات إلا أخرجته " [3] .
و عنه صلى الله عليه و آله قال : " تأوي إليه أمته كما تأوي النحلة إلى يعسوبها ، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً ، حتى يكون الناس على مثل أمرهم الأول . لا يوقظ نائماً و لا يهريق دماً " [4] .
و لعل معنى ( على مثل أمرهم الأول ) أي في المجتمع الإنساني الأول عندما كانوا أمة واحدة على صفاء فطرتهم الإنسانية ، قبل أن يقع بينهم الإختلاف كما قال تعالى: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ... ﴾ [5] .
و هو يؤيد ما تشير إليه بعض الأحاديث من أن المجتمع يصل في عصر المهدي عليه السلام إلى مجتمع الغنى و عدم الحاجة ، ثم إلى مجتمع المحبة و عدم الإختلاف و عدم الحاجة إلى المحاكم ، ثم إلى مجتمع اللانقد ، بحيث يعمل أفراده لخدمة بعضهم قربة إلى الله تعالى و يأخذون ما يحتاجونه من بعضهم بالصلاة على النبي صلى الله عليه و آله .
و عن النبي صلى الله عليه و آله قال : " يرضى عنه ساكن السماء و ساكن الأرض . لا تدع السماء من قطرها شيئا إلا صبته ، و لا الأرض من نباتها شيئاً إلا أخرجته ، حتى يتمنى الأحياء الأموات " [6] ، أي يتمنى الأحياء أن الأموات كانوا أحياء لينعموا معهم و يروا ما رأوا .
و عن الإمام الباقر عليه السلام قال : " و يظهر الله عَزَّ و جَلَّ به دينه و لو كره المشركون ، فلا يبقى في الأرض خراب إلا عمر " [7] .
و عن الإمام الصادق عليه السلام قال : " المهدي محبوب في الخلائق ، يطفئ الله به الفتنة الصماء " بشارة الإسلام / 185 . .
و عنه عليه السلام في تفسير قوله تعالى : ﴿ مُدْهَامَّتَانِ ﴾ [8] قال : يتصل ما بين مكة و المدينة نخلاً " [9] .
و عن سعيد بن جبير قال : " إن السنة التي يقوم فيها القائم تمطر الأرض أربعاً و عشرين مطرة ، و يرى آثارها و بركاتها " [10] .
و في مخطوطة ابن حماد : 98 : " علامة المهدي : أن يكون شديداً على العمال ، جواداً بالمال ، رحيماً بالمساكين " .
و فيها : " المهدي كأنما يلعق المساكين الزبد" .
يطور العلوم الطبيعية و وسائل المعيشة :
تذكر أحاديث المهدي عليه السلام عدداً من الأمور غير المألوفة للأجيال السابقة و لجيلنا المعاصر ، في وسائل الإتصال التي تكون في عصره ، و وسائل الرؤية ، و المعرفة ، و وسائل الحرب ، و أساليب الإقتصاد ، و الحكم و القضاء ، و غيرها .
و يظهر أن بعضها يكون كرامات و معجزات يجريها الله على يديه عليه السلام .
و لكن كثيراً منها تطوير للعلوم الطبيعية و استثمار لقوانين الله تعالى و نعمه ، التي أودعها فيما حولنا من مواد الأرض و السماء .
و تدل أحاديث متعددة و تشير ، إلى أن تطويره عليه السلام لعلوم الطبيعة سيكون قفزة في تقدم الحياة الإنسانية على الأرض في جميع مرافقها . من ذلك الحديث المروي عن الإمام الصادق عليه السلام قال : " العلم سبعة و عشرون حرفاً . فجميع ما جاءت به الرسل حرفان ، فلم يعرف الناس حتى اليوم غير الحرفين فإذا قام قائمنا أخرج الخمسة و عشرين حرفاً فبثها في الناس ، و ضم إليها الحرفين حتى يبثها سبعة و عشرين حرفاً " البحار : 52 / 336 . .
و هو و إن كان ناظراً إلى علوم الأنبياء و الرسل عليهم السلام و لكنها تشمل مضافاً إلى العلم بالله سبحانه و رسالته و الآخرة ، العلوم الطبيعية التي ورد أن الأنبياء عليهم السلام علموا الناس بعض أصولها ، و وجهوهم إليها ، و فتحوا لهم جزءا من أبوابها ، كما ورد من تعليم إدريس عليه السلام الخياطة للناس ، و تعليم نوح عليه السلام صناعة السفن و النجارة ، و تعليم داود و سليمان صناعة الدروع ، و غيرها .
فالمقصود بالعلم في الحديث أعم من علوم الدين و الطبيعة ، و المعنى أن نسبة ما يكون في أيدي الناس من العلوم إلى ما يعلمهم إياه عليه السلام نسبة اثنين إلى خمس و عشرين .
و عن الإمام الباقر عليه السلام قال: " أما إن ذا القرنين قد خير السحابين فاختار الذلول ، و ذخر لصاحبكم الصعب " .
قال : قلت : و ما الصعب ؟
قال : " ما كان فيه رعد و صاعقة أو ( و ) برق فصاحبكم يركبه . أما إنه سيركب السحاب ، و يرقى في الأسباب ، أسباب السماوات السبع و الأرضين السبع ، خمس عوامر ، و اثنتان خرابان " [11] .
و عن الإمام الصادق عليه السلام قال : " إن المؤمن في زمان القائم و هو بالمشرق ليرى أخاه الذي في المغرب . و كذا الذي في المغرب يرى أخاه الذي في المشرق " [12] .
و عنه عليه السلام : " إن قائمنا إذا قام مد الله لشيعتنا في أسماعهم و أبصارهم حتى لا يكون بينهم و بينه بريد يكلمهم فيسمعونه و ينظرون إليه و هو في مكانه " [13] .
و عنه عليه السلام قال : " إذا تناهت الأمور إلى صاحب هذا الأمر رفع الله تبارك و تعالى له كل منخفض من الأرض ، و خفض له كل مرتفع ، حتى تكون الدنيا عنده بمنزلة راحته . فأيكم لو كانت في راحته شعرة لم يبصرها " .
و روي أنه عليه السلام ينصب له عمود من نور من الأرض إلى السماء فيرى فيه أعمال العباد ، و أن له علوما مذخورة تحت بلاطة في أهرام مصر لا يصل إليها أحد قبله " [14] .
إلى غير ذلك من الروايات التي لا يتسع المجال لاستقصائها و تفسيرها . و بعضها يتحدث عن تطور العلوم بشكل عام ، و بعضها عن تطور القدرات الذهنية و الوسائل الخاصة بالمؤمنين ، و بعضها عن وسائل و كرامات خاصة بالإمام المهدي عليه السلام و أصحابه .
من ذلك ما عن الإمام الباقر عليه السلام قال : " كأني بأصحاب القائم و قد أحاطوا بما بين الخافقين ، ليس شيء إلا و هو مطيع لهم ، حتى سباع الأرض و سباع الطير تطلب رضاهم ( في ) ( و ) كل شيء ، حتى تفخر الأرض على الأرض و تقول : مرَّ بي اليوم رجل من أصحاب القائم " [15] .
و في رواية عن الإمام الباقر عليه السلام قال : " إذا قام القائم بعث في أقاليم الأرض في كل إقليم رجلاً يقول : عهدك في كفك فإذا ورد عليك أمر لا تفهمه و لا تعرف القضاء فيه ، فانظر إلى كفك و اعمل بما فيها " [16] .
و قد يكون ذلك على نحو الإعجاز و الكرامة لهم ، و قد يكون على أساس قواعد علمية ، أو وسائل متطورة .
ملكه أعظم من ملك سليمان و ذي القرنين :
يفهم من أحاديث الإمام المهدي عليه السلام أن الدولة الإسلامية العالمية التي يقيمها أعظم من الدولة التي أقامها نبي الله سليمان و ذو القرنين عليهما السلام ، و بعض الأحاديث تنص على ذلك ، كالحديث المروي عن الإمام الباقر عليه السلام : " إن ملكنا أعظم من ملك سليمان بن داود ، و سلطاننا أعظم من سلطانه " .
و الحديث الآتي بأنه تسخر له أسباب لم تسخر لذي القرنين ، و الأحاديث التي تدل على أن عنده مواريث الأنبياء عليهم السلام التي منها مواريث سليمان ، و أن الدنيا عنده بمنزلة ، راحة كفه . . .
فدولة سليمان عليه السلام شملت فلسطين و بلاد الشام ، و لكنها لم تشمل مصر و ما وراءها من أفريقيا . كما أنها لم تتجاوز اليمن إلى الهند و الصين و غيرها ، كما تذكر الأحاديث . بل تذكر أنها لم تتجاوز مدينة إصطخر جنوب إيران .
بينما دولة المهدي عليه السلام تشمل كل مناطق العالم ، حتى لا تبقى قرية إلا نودي فيها بالشهادتين ، و لا يبقى في الأرض خراب إلا عمر ، كما تنص الأحاديث الشريفة . بل تنص على شمولها للأرضين الأخرى !
و من ناحية الإمكانات التي تسخر للمهدي عليه السلام ، فهي تشمل الإمكانات التي سخرها الله تعالى لسليمان عليه السلام و تزيد عليها . سواء ما كان منها على نحو الإعجاز و الكرامة الربانية ، أو ما كان تطويراً للعلوم و استثماراً لإمكانات الطبيعة .
و من ناحية مدتها ، فقد كانت مدة دولة سليمان عليه السلام نحو نصف قرن ، ثم وقع الإنحراف بعد وفاته سنة931 قبل الميلاد و تمزقت الدولة ، و وقعت الحرب بين مملكتي القدس و نابلس . كما تذكر التوراة و المؤرخون .
أما دولة الإمام المهدي عليه السلام في حياته و بعده ، فهي تستمر إلى آخر الدنيا ، و لا دولة بعدها ! و المرجح عندنا أنه يحكم بعده المهديون من أولاده ، ثم تكون رجعة بعض الأنبياء و الأئمة عليهم السلام ، و يحكمون إلى آخر الدنيا .