تدل الآيات الشريفة المفسرة بظهور الإمام المهدي ، و الأحاديث الشريفة المبشرة به عليه السلام ، على أن مهمته ربانية ضخمة ، متعددة الجوانب ، جليلة الأهداف . فهي عملية تغيير شاملة للحياة الإنسانية على وجه الأرض ، و إقامة مرحلة جديدة منها بكل معنى الكلمة .
و لو لم يكن من مهمته عليه السلام إلا إنهاء الظلم ، و بعث الإسلام النبوي الأصيل و إقامة حضارته الربانية العادلة و تعميم نوره على العالم ، لكفى .
و لكنها مع ذلك مهمة تطوير الحياة البشرية تطويراً مادياً كبيراً ، بحيث لا تقاس نعمة الحياة في عصره والعصور التي بعده عليه السلام بالحياة في المراحل السابقة ، مهما كانت متقدمة ومتطورة .
و هي أيضاً مهمة تحقيق مستوى هام من الإنفتاح على الكون و عوالم السماء و سكانها ، يكون مقدمة للإنفتاح الأكبر على عوالم الغيب والآخرة.
و هذه لمحات عن جوانب مهمته عليه السلام بقدر ما يتسع لها هذا الكتاب :
تطهير الأرض من الظلم و الظالمين
يبدو بالنظرة الأولى أن تطهير الأرض من الظلم ، و استئصال الطواغيت و الظالمين ، أمر غير ممكن ، فقد تعودت الأرض على أنين المظلومين و آهاتهم حتى لا يبدو لاستغاثتهم مجيب ، و تعودت على وجود الظالمين المشؤوم ، حتى لا يخلو منهم عصر من العصور .
فهم كالشجرة الخبيثة المستحكمة الجذور ، ما أن يقلع منهم واحد حتى ينبت عشرة ، و ما أن يقضى عليهم في جيل حتى يفرخوا أفواجاً في أجيال .
غير أن الله تعالى الذي قضت حكمته أن يقيم حياة الناس على قانون صراع الحق و الباطل و الخير و الشر ، قد جعل لكل شيء حداً ، و لكل أجل كتاباً ، و جعل للظلم على الأرض نهاية .
جاء في تفسير قوله تعالى: ﴿ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ ﴾ [1] عن الإمام الصادق عليه السلام قال: " الله يعرفهم ! ولكن نزلت في القائم يعرفهم بسيماهم فيخبطهم بالسيف هو و أصحابه خبطاً " [2] .
و عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: " فليفرجن الله بغتة برجل منا أهل البيت ، بأبي ابن خيرة الإماء . لا يعطيهم إلا السيف هرجاً هرجاً " أي قتلاً قتلاً ) موضوعاً على عاتقه ثمانية أشهر " [3] .
و عن الإمام الباقر عليه السلام قال: " إن رسول الله صلى الله عليه وآله في أمته باللين و المنِّ ، وكان يتألف الناس ، و القائم يسير بالقتل ولايستتيب أحداً !! بذلك أمر في الكتاب الذي معه ، ويل لمن ناواه " [4] .
و الكتاب الذي معه هو العهد المعهود له من جده رسول الله صلى الله عليه وآله ، و فيه كما ورد : " أقتل ثم اقتل و لا تستتيبن أحداً " ، أي لا تقبل توبة المجرمين .
و عنه عليه السلام قال: " و أما شبهه في جده المصطفى صلى الله عليه و آله فخروجه بالسيف و قتله أعداء الله تعالى و أعداء رسوله ، و الجبارين و الطواغيت ، و أنه ينصر بالسيف و الرعب ، و أنه لاترد له راية [5] .
و في رواية عبد العظيم الحسني المتقدمة و هي في نفس المصدر ، عن الإمام الجواد عليه السلام : " فإذا كمل له العقد و هو عشرة آلاف خرج بإذن الله ، فلا يزال يقتل أعداء الله حتى يرضى الله تعالى . قلت ، و كيف يعلم أن الله قد رضي ؟ قال: يلقي الله في قلبه الرحمة " .
بل جاء في الأحاديث أن بعض أصحابه عليه السلام يرتاب و يعترض عليه لكثرة ما يرى من سفكه لدماء الظالمين ، فعن الإمام الباقر عليه السلام : " حتى إذا بلغ الثعلبية ( اسم مكان في العراق ) قام إليه رجل من صلب أبيه ( أي من نسبه ) هو أشد الناس ببدنه و أشجعهم بقلبه ماخلا صاحب هذا الأمر ، فيقول: يا هذا ما تصنع ؟! فوالله إنك لتجفل الناس إجفال النعم ! ( أي كما يجفل الراعي أو الذئب قطيع الماشية ) أفبعهد من رسول الله ، أم بماذا ؟! فيقول المولى الذي ولي البيعة ( أي المسؤول عن أخذ البيعة للإمام من الناس ): أسكت ، لتسكتن أو لأضربن الذي فيه عيناك ، فيقول القائم عليه السلام : أسكت يا فلان ، إي والله إن معي لعهداً من رسول الله صلى الله عليه و آله ، هات يا فلان العيبة ( أي الصندوق ) فيأتيه بها فيقرأ العهد من رسول الله صلى الله عليه و آله فيقول الرجل: جعلني الله فداك : أعطني رأسك أقبله ، فيعطيه رأسه ، فيقبل بين عينيه ، ثم يقول: جعلني الله فداك ، جدد لنا بيعة ، فيجدد لهم بيعة [6] .
و لا بد أن هناك علامات أو آية يعرف بها أصحابه أن تلك الصحيفة هي عهد معهود من رسول الله صلى الله عليه و آله ، و أما طلبهم أن يجددوا مبايعته عليه السلام فلأن اعتراضهم عليه يعتبر نوعاً من الإخلال ببيعتهم الأولى له عليه السلام .
و قد يرى البعض في سياسة القتل و الإبادة للظالمين التي يعتمدها الإمام المهدي عليه السلام ، أنها قسوة و إسراف في القتل ، و لكنها في الواقع عملية جراحية ضرورية لتطهير مجتمع المسلمين و مجتمعات العالم من الطغاة و الظالمين ، و بدونها لا يمكن إنهاء الظلم من على وجه الأرض ، و إقامة العدل خالصاً كاملاً ، و لا القضاء على أسباب المؤامرات الجديدة التي سيقوم بها بقاياهم فيما لو استعمل الإمام معهم سياسة اللين و العفو ! فالظالمون في مجتمعات العالم كالغصون اليابسة من الشجرة ، بل كالغدة السرطانية ، لابد من استئصالها من أجل نجاة المريض مهما كلف الأمر .
و الأمر الذي يوجب الاطمئنان عند المترددين في هذه السياسة أنها بعهد معهود من النبي صلى الله عليه و آله و أن الله تعالى يعطي الإمام المهدي عليه السلام العلم بالناس و شخصياتهم ، فهو ينظر إلى الشخص بنور الله تعالى فيعرف ماهو و ما دواؤه ، و لا يخشى أن يقتل أحداً من الذين يؤمل اهتداؤهم و صلاحهم ، كما أخبر الله تعالى عن قتل الخضر عليه السلام للغلام في قصته مع موسى عليه السلام حتى لايرهق أبويه طغياناً و كفراً .
بل تدل الأحاديث على أن الخضر يظهر مع المهدي عليه السلام و يكون وزيراً له ، و لا بد أن المهدي عليه السلام عنده علم الخضر اللدني الذي قال الله عنه : ﴿ ... آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ﴾ [7] ، و أنهما يستعملانه في تنمية بذور الخير ، و دفع الشر عن المؤمنين ، و القضاء على الفساد و الشر و هو بذرة صغيرة قبل أن يصبح شجرة خبيثة .
و من المرجح أن يكون عمل الخضر و أعوانه في دولة المهدي عليهم السلام علنياً ، و أن يكون لهم حق الولاية على الناس و حق النقض على القوانين و الأوضاع الظاهرية .
و قد ورد في الأحاديث الشرية أن الإمام المهدي عليه السلام يقضي بين الناس بحكم الله الواقعي الذي يريه إياه الله تعالى ، فلا يطلب من أحد شاهداً أو بينة ، و كذلك يستعمل علمه الواقعي في قتل الظالمين و الفجار ، و قد يسير أصحابه في القضاء بين الناس و قتل الفجار بهذه السيرة ، أما في بقية الأمور فقد يتعاملون مع الناس على الظاهر . و لا بد أن يكون للخضر و أمثاله صلاحياتهم الخاصة [8] .