قد سعى جماعة بالامام (عليه السلام) إلى المتوكل ، وأخبروه بأن في منزله سلاحاً وكتباً وغيرها وأنه يطلب الأمر لنفسه ، فارسل المتوكل مجموعة من الأتراك ليلاً ليهجموا على منزله على حين غفلة ، فلمّا باغتوا الإمام (عليه السلام) وجدوه وحده ، مستقبل القبلة وهو يقرأ القرآن ، وليس بينه وبين الأرض بساط فأخذ على الصورة التي وجد عليها ، وحمل إلى المتوكل في جوف الليل، فمثُل بين يدي المتوكل وهو في مجلس شرابه وفي يده كأس ، فلمّا رآه أعظمه وأكبره وأجلسه إلى جانبه ولم يكن في منزله شيء ممّا قيل عنه ولم تكن للمتوكّل حجة يتعلّل بها على الإمام (عليه السلام) . فناول المتوكل الإمام (عليه السلام) الكأس الذي في يده .
فقال الإمام (عليه السلام) : ياأمير المؤمنين ما خامر لحمي ودمي قط ، فأعفني، فأعفاه ، فقال المتوكل : أنشدني شعراً أستحسنه .
قال الإمام (عليه السلام) : إنّي لقليل الرواية للشعر .
قال المتوكل : لا بدّ أن تنشدني شيئاً . فأنشده الإمام (عليه السلام) :
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم***غلب الرجال فما أغنتهم القلل
واستنزلوا من بعد عز من معاقلهم***فاُودعوا حفراً يابئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد ما قبروا***أين الأسرة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعمة***من دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم***تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
قد طالما أكلوا يوماً وما شربوا***فأصبحوا بعد طول الأكل قد اُكلوا
وطالما عمّروا دوراً لتحصنهم***ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا
وطالما كنزوا الأموال وادّخروا***فخلّفوها على الأعداء وارتحلوا
أضحت منازلهم قفراً معطَّلَةً***وساكِنوها الى الأجداث قد رحلوا
فبكى المتوكل بكاء كثيراً حتى بلّت دموعه لحيته ، وبكى من حضر ثم أمر برفع الشراب ، ثم قال ياأبا الحسن ، أعليك دين ؟ قال الإمام (عليه السلام): نعم ، أربعة آلاف دينار ، فأمر بدفعها إليه ، وردّه إلى منزله مكرّماً . [11]
فمواقف الإمام (عليه السلام) كانت تنسجم مع موقع الإمامة أوّلاً وتنسجم مع الظروف السياسية والاجتماعية التي تحيط بالإمام(عليه السلام) وشيعته ثانياً .
وكان الإمام (عليه السلام) يحاول إتمام الحجة وإقامة الحق كلما سمحت الفرصة بذلك ، فقد روي أن نصرانيّاً جاء الى دار الإمام (عليه السلام) حاملاً إليه بعض الأموال ، فخرج إليه خادمه وقال له : أنت يوسف بن يعقوب ؟ فقال : نعم ، قال : فانزل واقعد في الدهليز ، فتعجّب النصراني من معرفته لاسمه واسم أبيه ، وليس في البلد من يعرفه ، ولا دخله قط . ثم خرج الخادم وقال : المئة دينار التي في كمك في الكاغد هاتها ، فناولها إيّاه ثم دخل على الإمام (عليه السلام) وطلب منه أن يرجع الى الحق وأن يدخل في الإسلام فلما قال له الإمام : يايوسف أما آن لك؟ فقال يوسف يامولاي قد بان لي من البرهان ما فيه الكفاية لمن اكتفى ، فقال له الإمام (عليه السلام) : هيهات انك لا تسلم ولكنه سيسلم ولدك فلان وهو من شيعتنا[12].