أكرم بالإمام علي (عليه السلام) علماً من أعلام الأمة، وبطلاً من أبطال جهادها، وخليفة من خيرة راشديها، فلقد كان للمسلمين إماماً يهتدون به، وقدوة يسيرون على نهجه، ونبراساً يستضيئون بنور علمه.
أما بالنسبة لنا، فهو ليس فقط إماماً نقتدي به، وقدوة نقتفي أثره، ونبراساً نستنير بفكره، وإنما هو ذوب ينساب في دمائنا، ومصباح يتأجّج في قلوبنا.. يمنحنا النور والإيمان من داخلنا... من داخل عقولنا وذواتنا، ومن عميق قلوبنا ونفوسنا.. فهو جزء لا يتجزأ من كياننا وأحاسيسنا.
ويكفي هذا الإمام العظيم شرفاً ورفعة، أنه كان (ربيب رسول الله)، فهو الإنسان الوحيد الذي نشأ في أكناف النبوة، وتربّى في أحضان الرسالة، يغذوه النبي (صلى الله عليه وآله) بأفكاره، وينفحه بمبادئه، مثلما يغذوه الطعام ويرشفه الماء.
ورغم قوة شخصية النبي (صلى الله عليه وآله)، وامتداد فكرة وملازمة الإمام له، إلا أن الإمام (عليه السلام) لم يكن صورة منطبعة عنه، ولا كان امتداداً تبعياً لشخصيته، بل كان الإمام (عليه السلام) نسيج وحده، وشخصية قائمة بذاته.
فنحن حين نقرأ نماذج من كلام النبي (صلى الله عليه وآله) في موضوع ما، ثم نقرأ نماذج من كلام علي (عليه السلام)، نجد أن علياً بعد ما استوعب ما استمده من النبي (صلى الله عليه وآله) قد زاد على ذلك الكثير من ذاته وفكره، مما يميط اللثام عن قوة ذاتية، وتفرد شخصيته، وأن الله سبحانه قد اختصه بالكثير من العلوم. وذلك مصداق قول النبي (صلى الله عليه وآله): (أوتيت جوامع الكلم، وأوتي علي جوامع العلم).
ورغم أن الإمام علي (عليه السلام) هو أدنى سوية من النبي (صلى الله عليه وآله)، لأنه قبس من لألائه، ونفحة من جلاله وكماله، إلا أننا نراه يذيع علينا من موفور علمه.. فكأن الإمام (عليه السلام) بالنسبة لعلم النبي (صلى الله عليه وآله) كالنبع الذي يستمد مادته من مخزن النبي (صلى الله عليه وآله) ثم يفيض به ماء فراتاً لذة للشاربين.. أو أنه بالنسبة لنور النبي (صلى الله عليه وآله) كزجاجة المصباح التي استمدت نور المصباح وخزنته ثم أصدرته أشعة وضاءة للعالمين. وليس ثمة تصوير أصدق لذلك من قوله تعالى في آية النور: (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري)(1) فالمشكاة هي نفس النبي (صلى الله عليه وآله) التي ملكت القابلية التامة لاحتواء النور الإلهي، الذي أشرق فيها بصورة مصباح الذي حواه النبي (صلى الله عليه وآله) قد أودعه في علي فاستقر في الزجاجة الحافظة. (الزجاجة كأنها كوكب دري): ثم فاض النور من تلك الزجاجة الوضاءة على الناس، فكأن الإمام (عليه السلام) كالكوكب الدري الذي يشع نوره على العالمين.
وفي تشبيه آخر للنبي (صلى الله عليه وآله) قال: (أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب)(2)، فهذا تمثيل رائع لمكانة الإمام علي (عليه السلام) في العلم، وأنه بلغ قصب السبق في كافة العلوم الدينية وغير الدينية.
وليس بغريب بعد هذا أن يتصدى الإمام علي (عليه السلام) إلى القول:
(سلوني قبل أن تفقدوني، فإني بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض...)(3).
يا لها من كلمات موجزة، ولكنها تضم من الحقيقة جوهراً سامياً ومخزوناً طامياً.. فهي تبيّن عداً من سعة علوم الإمام (عليه السلام)، أن علومه هذه ليست هي علوم دينية واجتماعية فحسب، بقدر ما هي علوم طبيعية وكونية، تمتد لتشمل عوالم الطبيعة ومعارج السماء، فكل ذلك من معجزات الله تعالى التي دعا الدين إلى معرفتها وكشف أسرارها:
(قل انظروا ماذا في السماوات والأرض)(4)، (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)(5).
من هنا أبدأ حديثي في نهج البلاغة، ذلك الكتاب الذي لم يزده تقادم الأيام إلا جدة ورفعة.. من علوم الطبيعة والكون.. ونقصد من علوم الطبيعة كل العلوم التي تدرس الطبيعة والكون تعلم الفلك والرياضيات والفيزياء والكيمياء والجيولوجيا..
علم التوحيد يشتمل على كل العلوم
جانب كبير ما تناوله الإمام علي (عليه السلام) في خطبه وتوجيهاته هو العلم الإلهي، وهو ما نعبر عنه (بعلم التوحيد) الذي عرض فيه الكثير من آلاء الله، وبين المزيد من أوجه قدرته... بدءاً من خلق الإنسان والملائكة والحيوان، إلى خلق السماوات والنجوم والكواكب والشمس والقمر، إلى خلق الأرض والجبال والسحب والأمطار.
ثم لم يغفل عن بيان نهاية العالم بعد انتهاء وظيفته المقررة له، وما يعتريه عندها من تغير واضمحلال ينتهي به إلى الفناء... كل ذلك بأسلوب عبقري من البلاغة النادرة والفصاحة الفريدة.
وفي هذا الحقل العقائدي سنقتصر على استجلاء المعالم العلمية المتعلقة بعلم الفلك وعلم الجيولوجيا.
علم الفلك
يختص علم الفلك بدراسة النجوم والكواكب والأجرام انطلاقاً من الروابط القائمة فيما بينها، وهو ما نعبر عنه (بالتجاذب الكوني). يصور لنا الإمام علي (عليه السلام) هذه العلاقة مع آيات أخرى من قدرة الله سبحانه في دعاء الصباح فيقول: (يا من دلع ـ أي أخرج ـ لسان الصباح بتلّجه، وسرّح قطع الليل المظلم بغياهب تلجلجه، وأتقن صنع الفلك الدوار في مقادير تبرّجه).
فالإمام (عليه السلام) يقرر أن كل ما في السماء من كواكب وأجرام تدور وفق نظام الأفلاك والأبراج، فهي تلتزم مداراتها ضمن أبراجها، وفق ما قدر لها من تقدير محكم ونظام دقيق، ولو اختل هذا النظام لحظة من الزمن لتهاوت النجوم على بعضها، ولتساقطت من أفلاكها، ولأصابها الدمار والاندثار، فسبحان من أقامها موطدات بلا عمد، ورفعها قائمات بلا سند.
خلق الكون
مما يهتم به علم الفلك اهتماماً كلياً البحث في أصل نشوء الكون، كيف نشأ؟ ومن أي شيء منشأه؟ فوضع العلماء عدة فرضيات، من أحدثها الفرضية التالية التي سوف نحاول مقابلتها مع نظرية الإمام علي (عليه السلام).
يقول علماء الفلك عن أصل نشوء الكون:
في البدء كانت كتلة تسمى (البلازما) مؤلفة من جسيمات عنصرية أولية Elementary Particles كالبروتونات والنيترونات والإلكترونات واللبتونات، وكانت هذه الجسيمات متراصة على بعضها بدون أبعاد ملحوظة فيما بينها.. ثم بدأت تتمدد هذه الكتلة وتتباعد الجسيمات عن بعضها مشكلة انفجاراً فجائياً، أدى إلى انقذاف هذه الجسيمات بشكل شظايا ترافقها إشعاعات ذرية وكهروطينسية مختلفة.
ثم بدأت تلك الجسيمات المتفرقة بالتجمع وفق نظام مدهش بديع مشكلة العناصر الكيميائية، وأول ما تشكل منها أبسط العناصر (الهيدروجين) الذي تتألف ذرته من بروتون يدور حوله الإلكترون ويعتبر الهيدروجين المادة الأساسية في بناء الكون، لأن منه تشكلت فيما بعد جميع العناصر الأخرى، الخفيفة منها والثقيلة، ابتداءً من الهليوم وحتى اليورانيوم، ولهذا سمي الهيدروجين أبو العناصر. وظل الهيدروجين يتشكل حتى بدا كسحابة رقيقة تغشي الكون كله، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بالدخان في قوله تعالى:
(ثم استوى إلى السماء وهي دخان)(6)، وبقدرة الله تعالى بدأت الدوامات تلعب بهذا الغاز، مشكلة مجموعات غازية هائلة الحجم، تدور كل مجموعة منها حول محور مشترك، هي بداية المجرة، وهي أشبه ما تكون بقرص غازي يدور حول نفسه في الفضاء، وبدأ يتشكل غاز الهيدروجين في بؤرات معينة مع مرور الزمن، وتتضاغط الأجزاء المتكتلة بفعل الجاذبية كلما نمت حجومها وتكدس عليها قسم جديد من الغاز الخارجي وينتهي الأمر بظهور النجوم في هذه الأجزاء.
ومع مرور الزمن تبدأ التفاعلات الهيدروجينية في النجم محولة الهيدروجين إلى غاز الهليوم، ومع ازدياد عمر النجم ونتيجة الحرارة الهائلة في داخل النجم والضغط الشديد تحدث التفاعلات النووية محولة الهليوم إلى العناصر الأكثر ثقلاً، إذا قدر النجم أن ينفجر في الفضاء ثم تبرد أجزاؤه وحصلنا على ما يشبه كواكب المجموعة الشمسية، كالأرض والزهرة والمريخ... وهي ناشئة حتماً من غير نجم الشمس الذي ما زال مؤلفاً من الغازات الخفيفة (99% هيدروجين وهليوم) التي تدل على أنه ما يزال في أول حياته.
نظرة الإمام علي (عليه السلام) في خلق الكون
تكلم الإمام علي (عليه السلام) عن خلق الكون في عدة مواضع من نهج البلاغة، نخص منها الخطبة الأولى والخطبة رقم (89) والخطبة (209).
وفي مجموع هذه الخطب يعطي الإمام (عليه السلام) نظرية كلية عن نشوء الكون، لم يتوصل العلم إلى معرفة كل جوانبها بعد.
فهو (عليه السلام) يقرر أن أول الخلق كان للفضاء، الذي فتقه الله من العدم، وشق فيه النواحي والأرجاء وطرق الهواء... ثم خلق سبحانه سائلاً كثيفاً متلاطماً، حمله على متن ريح قوية قاصفة، تحجزه عن الانتشار والاندثار، ثم خلق سبحانه ريحاً عقيمة من نوع آخر، سلطها على ذلك السائل في الأعلى، فبدأت بتصفيقه وإثارته حتى مخضته مخض السقاء، وبعثرته في أنحاء الفضاء، ومنه خلق الله السماوات.
فالإمام (عليه السلام) يبين أن الريح العقيمة قد حولت السائل إلى غاز كالدخان انتشر في الفضاء فكانت منه السماوات، أما الزبد الذي تشكل على سطح السائل فقد خلقت منه الأرض.
وفي هذا دلالة خفية إلى أن الأرض تشكلت من العناصر الخفيفة نسبياً، لأن الزبد الذي يطفو على سطح السائل هو أخف من غيره.
وهذه النظرية تنفي تشكل الأرض من الشمس، ومما يؤيد ذلك أن الأرض تحوي من العناصر الخفيفة والثقيلة حسبما هو ظاهر في تصنيف (مندلييف) للعناصر، بينما الشمس فلا زالت تحوي من العناصر الغازية الخفيفة، فهي لم تصل بعد إلى المرحلة من عمرها التي يمكنها فيها أن تشكل العناصر الثقيلة. فالأرض أقدم تشكلاً من الشمس، فكيف تكون منفصلة من الشمس؟
وإليك الفقرات التي تكلم فيها الإمام علي (عليه السلام) عن خلق الكون والسماوات يقول (عليه السلام) في الخطبة الأولى من نهج البلاغة:
(ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء، وشق الأرجاء، وسكائك، فأجرى فيها ماء متلاطماً تياره، متراكماً زخّاره، حمله على متن الريح العاصفة، والزعزع القاصفة، فأمرها برده، ويسلطها على شده، وقرنها إلى حده. الهواء من تحتها فتيق (أي منبسط)، والماء من فوقها دفيق).
يستفاد من هذا الكلام أن الله سبحانه خلق الفضاء (فتق الأجواء) ثم خلق في الفضاء ماءً، أي سائلاً من نوع خاص، ثم سلط عليه ريحاً قوية من تحته، فأصبحت الريح كوسادة تحمله وتمنعه من الهبوط (فأمرها برده)، والمقصود بالماء هنا هو الجوهر السائل الذي هو أصل كل الأجسام.
ثم يقول (عليه السلام): (ثم أنشأ سبحانه ريحاً اعتقم مهبها، وأدام مربها، وأعصف مجراها، وأبعد منشاها، فأمرها بتصفيق الماء الزخار وإثارة موج البحار، فمخضته مخض السقاء، وعصفت به عصفها بالفضاء. ترد أوله إلى آخره، وساجيه إلى مائره، حتى عب عبابه، ورحى بالزبد ركامه، فرفعه في هواء منفتق، وجو منفهق (أي مفتوح واسع)، فسوى منه سبع سماوات، جعل سفلاهن موجاً مكفوفاً، وعلياهن سقفاً محفوظاً، وسمكاً مرفوعاً، بغير عمد يدعمها، ولا دسار ينظمها).
فالإمام (عليه السلام) يقرر أن السائل المحمول على الريح العاصفة، سلط سبحانه عليه من الأعلى ريحاً أخرى من نوع خاص هي الريح العقيم، قامت بتوميج السائل الذائب تمويجاً شديداً كمخض السقاء، حتى ارتفع منه بخار كالدخان خلق منه السماوات العليا، وظهر على وجه ذلك السائل زبد، خلق منه الأرض.
هذا وإن عدم تعرضه (عليه السلام) إلى خلق الأرض بعد ذكر السماوات، دليل على خلقها قبل السماوات، وهذا قول بعض المفسرين، واستدلوا عليه بقوله تعالى في سورة فصلت:
(قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين) إلى قوله (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين).
ويقول (عليه السلام) في الخطبة (89) من النهج عن خلق السماء: (ونظم بلا تعليق رهوات فرجها، ولاحم صدوع انفراجها، ووشج بينها وبين أزواجها (أي أمثالها) وقرائفها... وناداها بعد إذ هي دخان، فالتحمت عرى أشراجها (جمع شرج وهي المجرة)، وفتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها).
في هذا الكلام يشير الإمام (عليه السلام) إلى نظرية نشوء الكون، وهي إحدى النظريات المعروضة اليوم، وهي أن أول نشوء الكون كان من دقائق ناعمة هي الدخان، ثم بدأت الدقائق تتجمع في مراكز معينة مشكلة أجراماً، وكانت السماء أول ما خلقت غير منتظمة الأجزاء، بل بعضها أرفع وبعضها أخفض، فنظمها سبحانه (ونظم بلا تعليق رهوات فرجها) فجعلها على بساط واحد من غير حاجة إلى تعليق، ولصق تلك الشقوق والفروج، فجعلها جسماً متصلاً وسطحاً أملس، بل جعل كل جزء منها ملتصقاً بمثله (ووشج بينها وبين أزواجها).
وفي قول الإمام (عليه السلام): (فالتحمت عرى أشراجها) تشبيه لمجموعات المجرة بالحلقات المرتبطة ببعضها بوشاج الجاذبية، وجعل بين المجموعات والمجرات أبواباً ونقاباً (أي طرقاً) بعد أن كانت مسدودة بدون منفذ، وهو ما عبر عنه الإمام (عليه السلام) بالفتق بعد الارتتاق في قوله (وفتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها).
ثم يقول (عليه السلام): وأقام رصداً من الشهب الثواقب على نقابها، وأمسكها من أن تمور في خرق الهواء بأيده، وأمرها أن تقف مستسلمة لأمره.
فأما قوله (عليه السلام): (وأقام رصداً من الشهب) إشارة إلى أن الشهب ترصد كل من يحاول النفوذ من نقاب السماء أي من طرقها، وأما قوله (عليه السلام): (وأمسكها من أن تمور في خرق الهواء بأيده) أي أمسك الكواكب من أن تضطرب في الهواء بقوته (وأمرها أن تقف مستسلمة لأمره) أي ألزمها مراكزها ومداراتها لا تفارقها.
وفي الخطبة رقم (209) يقول الإمام (عليه السلام):
(وكان من اقتدار جبروته، وبديع لطائف صنعته، أن جعل ماء البحر الزاخر المتراكم المتقاصف يبساً جامداً، ثم فطر منه أطباقاً، ففتقها سبع سماوات بعد ارتتاقها، فاستمسكت بأمره، وقامت على حده).
ففي هذا بيان لما ذكرناه سابقاً من أصل الأجرام سائل عبّر عنه بالماء، خلقت السماء من بخاره، وخلقت الأرض من زبده، ثم أصبحت الأرض يبساً جامداً بعد السيولة (ثم فطر منه أطباقاً) أي خلق من ذلك السائل أطباقاً في السماء، ثم جعلها سبع سماوات منفصلة بعد أن كانت مجتمعة، وقد كانت هي والأرض كتلة واحدة، وذلك مصداق قوله تعالى:
(أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما)(7).