وهي الموازية، في بعض وجوهها، للهابياس كوربس Hapeas corpus الإنكليزية. فقد حرّمت قوانين الدول المتقدمة التضييق على شخص الإنسان بشكل غير مشروع، واعترفت بحرية التنقل، ومنعت التعذيب لانتزاع الإقرار من المتهمين، كما قضت بالتعويض على المسجونين إذا تبينت براءتهم. وهذه الأمور لم تحظ عملياً بالاهتمام والاحترام في معظم دول العالم، وحتى في البلدان الغربية التي عرفت النهضة الحديثة، فإن تبتني هذه المبادئ ليس مطلقاً، لا سيما المبدأ الأخير القاضي بالتعويض على المسجونين ظلماً الذي يطبق، عندما يطبق، بشكل خجول (1)..
وما زال الناس يسجنون لفترات طويلة جداً على ذمة التحقيق. فإذا بُرّئوا لم ينالوا التعويض الملائم عن تعطيلهم، وعما يمكن أن يكون لحق بهم وبعائلاتهم من أذى. على أن التدابير المتخذة والتعويض الجزئي إذا حصل، فهي لا تطال الأجانب، بل فقط المواطنين. وهذا ما يدل على عدم الإيمان الفعلي بهذه الأمور، بل فقط على الالتزام بقانون ملزم.
وما زالت الإنسانية اليوم تكافح لمنع السجن الاحتياطي الطويل، والإفراج عن عشرات ألوف المساجين السياسيين في مختلف بقاع العالم، ممن يقضون حياتهم في السجون، أو القسم الأهم منها، بحيث يخرجون، إذا خرجوا، عاجزين أو مرضى.
أما في الإسلام، فإن الأمر مختلف تماماً، ذلك بأنّه يؤمّن الحرية للناس جميعاً، لعربيّهم وعجميّهم، أبيضهم وأحمرهم، وأسودهم، كما أنه يمنع من الظلم والتعسف، وهذا ما طبّقه علي، حيث تسنّى له أن يطبقه.
فهو لم يقيد حرية الحركة والانتقال، حتى لأولئك الذين كان يخشى أن يتحركوا ضده، فهو لم يمنع طلحة والزبير من ترك المدينة إلى مكة، رغم أنه كان يعرف أنهما لم يقصدا العمرة التي ادعيا بل الغدرة كما قال (2).
وهو لم يقيد حركة الخوارج، كما رأينا، ولم يمنع الفارين إلى معاوية. كما حرّم علي ممارسة العنف على الناس بدون وجه حق. فالمتهم لا يجوز تعذيبه مهما كانت تهمته. فحتى في تهمة القتل قضى علي (عليه السلام) بـ(التلطف في استخراج الإقرار من الظنين) (3)، ثم هو رفع العقوبة عن المقر إذا كان إقراره نتيجة لعنف على شخصه أو ماله أو نتيجة لتهديد. فكان يقول: (من أقر عن تجريد أو حبس أو تخويف أو تهديد فلا حد عليه) (4).
وحتى في حال ثبوت الجريمة وإنزال العقاب، فإنه يجب عدم التجاوز. فقد كان علي يعرض السجون كل يوم جمعة، فمن كان عليه حد أقامه عليه، ومن لم يكن عليه حد خلّى سبيله) (5).
أما في حال التهمة، فكان علي لا يسجن على ذمة التحقيق إلا متهماً بدم، كما كان لا يسجن بعد معرفة الحق وإنزال الحدود، لأن الحبس بعد ذلك ظلم (6).
أما حق الدفاع فكان لا يجوز المساس به. فالمحاكمة يجب أن تكون متناقضة، بمعنى أنه يجري النقاش بين مدع ومدعى عليه. لا أن يعول على أقوال أحدهما فقط، يقول علي مفسراً هذا الأمر: (إن الحدود لا تستقيم إلا عن المحاجّة والمقاضاة وإحضار البينة) (7)، من هنا امتنع القضاء على غائب (
.