كان الحكام في السابق يتصرفون على أنهم المالكون لأرواح الناس، فكان لا يمنعهم مانع من قتلهم أو التضحية بأرواحهم بإرادتهم الخاصة، ولكن الأديان السماوية أتت لتضع حداً لهذا الحق المزعوم، معتبرة أن الله هو رب البشر لا الملوك والأباطرة، فقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَ خَطَأً) (1). وأكّد ذلك الرسول (صلّى الله عليه وآله) بتشدده في حرمة دم المؤمن (2)، وهذا ما تقيّد به علي وأمر عماله أن يتقيّدوا به.
يقول (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر عندما ولاّه مصر: (إيّاك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس من شيء أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة، من سفك الدماء بغير حقها والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا فيه من الدماء يوم القيامة. فلا تقوّين سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك ممّا يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله. ولا عذر لك عند الله وعندي في قتل العمد، لأن فيه قود البدن) (3).
هذا مبدأ طبّقه عليّ بكل دقّة، لا سيما في مشاكله مع الخوارج، فهؤلاء خرجوا من الكوفة والبصرة وتجمعوا مسلحين، فلم يبادر الإمام إلى قتالهم وقتل أي منهم، فيما كان يجهز للمسير إلى الشام، فكان جماعته يتخوّفون من انقضاض الخوارج على النساء والذراري، أثناء غياب الرجال في الحرب، لذلك كانوا يطالبون بضربهم. ولكن علياً كان يرفض، معتبراً أن ليس له الحق في هذا الأمر (4)، وكان يقول للخوارج: (لا نبدأكم بحرب حتى تبدأونا به) (5).
وهذا ما طبّقه علي في مناسبات أخرى. فقد أتاه الخرّيت بن راشد ذات يوم فقال له: (... إني خشيت أن يفسد عليك عبد الله بن وهب وزيد بن حصين - من رؤوس الخوارج - فقد سمعتهما يذكرانك بأشياء لو سمعتها لم تفارقهما حتى تقتلهما).
فقال علي: (إني مستشيرك فيهما. فماذا تأمرني؟).
فقال الخريت: (آمرك أن تدعو بهما فتضرب رقبتيهما).
فقال علي (عليه السلام): (لقد كان ينبغي لك أن تعلم أني لا أقتل من لم يقاتلني ولم يظهر لي عداوة وكان ينبغي لك، لو أنني أردت قتلهما، أن تقول لي: اتق الله، بم تستحل قتلهما ولم يقتلا أحد ولم ينابذاك ولم يخرجا عن طاعتك) (6).
على أن ما تقيد علي بحرمته ليس فقط دماء المسلمين، بل دماء أهل الذمة أيضاً، إذ يوصي مالك بن الحارث الأشتر بالرحمة بالناس مسلمهم وذميّهم بقوله: (ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين وإما نظير لك بالخلق) (7).
كما يوصي ابنه الحسن بأهل الذمة بقوله: (الله الله في ذمة نبيّكم، فلا يظلمن بين أظهركم) (
.
ولعل قصة حجر بن عدي الكندي وصحبه، وهم من أفاضل أنصار الإمام علي، الذين تمّ قتلهم بأمر من معاوية بن أبي سفيان، كانت في أساسها دفاعاً عن أهل الذمة، ذلك أن عربياً مسلماً قتل ذمياً، فرفض زياد، عامل معاوية، أن يقيده منه، ولكن حجراً تحرك حتى اضطر زياداً إلى إمضاء الحكم والكتابة إلى معاوية، الذي أمره أن ينتظر أول فرصة تمكنه من الانتقام من حجر ليفعل، وهذا ما حصل فعلاً، دون أن يقيم معاوية وزناً للمبدأ القائل: (أهل الذمة دماؤهم كدمائنا)، وأن (دم الذمي كدم المسلم حرام).
وهكذا، فإن حياة الإنسان يجب الحفاظ عليها، ولا يجوز سفك الدماء إلا عندما يكون ذلك تنفيذاً لأمر الله عزّ وجلّ الذي يقول: (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) (9)، والذي يقول: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا...) (10)، بهذا تتضح الأحوال التي يجوز فيها القتل وهي حالات الدفاع عن الجماعة أو عن الدين.
أما إذا قتل الحاكم أحد الأفراد خطأً، فإنه مسؤول عن ديته، يقول الإمام مخاطباً مالك الأشتر: (وإن ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بالعقوبة، فإن في الوكزة فما فوقها مقتلة، فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم) (11).
أما إذا قتل إنسان ولم يعرف بالتحديد قاتله، فإن ديته على بيت مال المسلمين، كأن يقتل في زحام يوم الجمعة أو بأية طريقة أخرى. بناء على مبدأ أقره الإمام علي (12)، ولم تتوصل الإنسانية حتى اليوم إلى إقرار مثيل له.
الهوامش:
1- سورة النساء: 92.
2- راجع مسند أحمد بن حنبل، ج2، ص277، وج4، ص168 وسائر الصحاح.
3- نهج البلاغة، م4، ج17، ص159.
4- راجع المبرّد الكامل، ج2، ص156.
5- نهج السعادة، م2، ص485.
6- نهج السعادة، م2، ص485.
7- شرح النهج م4، ج17، ص120.
8- الطبري، ج5، ص148.
9- سورة المائدة: 32.
10- سورة المائدة: 33.
11- نهج البلاغة، م4، ج17، ص151.
12- فروع الكافي، ج7، ص354.