لقد أذن الله تعالى في ترفيع البيوت التي يذكر فيها اسمه و يسبح له بالغدو و الآصال في آية مباركة،و قال:
في بيوت أذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو و الآصال
رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب و الأبصار. (1) و تفسير الآية رهن دراسة أمرين:
الأول:ما هو المقصود من البيوت؟
الثاني:ما هو المراد من الرفع؟
أما الأول فربما قيل ان المراد من البيوت هو المساجد.
قال صاحب الكشاف:في بيوت يتعلق بما قبله،مثل نوره كمشكاة في بعض بيوت الله،و هي المساجد . (2) و لكن الظاهر أن التفسير غير صحيح،لأن البيت هو البناء الذي يتشكلمن جدران أربعة و عليها سقف قائم،فالكعبة بيت الله لأجل كونها ذات قوائم أربعة و عليها سقف،و القرآن يعبر عن البيت بالمكان المسقف،و يقول:و لو لا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة و معارج عليها يظهرون. (3) فالمستفاد من الآية أن البيت لا ينفك عن السقف،هذا من جانب.و من جانب آخر:لا يشترط في المساجد وجود السقف،هذا هو المسجد الحرام تراه مكشوفا تحت السماء و دون سقف يظلله.
و قد ورد لفظ البيوت في القرآن الكريم(36 مرة)بصور مختلفة،و استعمل في غير المسجد،يقول سبحانه:طهرا بيتي للطائفين و العاكفين و الركع السجود. (4) و اذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله و الحكمة. (5) إلى غير ذلك من الآيات،فكيف يمكن تفسيره بالمساجد؟
و بما أن جميع المساجد ليس على هذا الوصف،التجأ صاحب الكشاف بإقحام كلمة«بعض»،و قال :في بعض بيوت الله و هي المساجد،و هو كما ترى،و هناك حوار دار بين قتادة فقيه البصرة و أبي جعفر الباقر عليه السلام يؤيد ما ذكرنا.
حضر قتادة في مجلس الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام فقال له الإمام:من أنت؟
قال:أنا قتادة بن دعامة البصري.
فقال أبو جعفر:أنت فقيه أهل البصرة؟
فقال:نعم.قال قتادة:أصلحك الله،و لقد جلست بين يدي الفقهاء و قدام ابن عباس فما اضطرب قلبي قدام واحد منهم،ما اضطرب قدامك!فقال أبو جعفر عليه السلام:ما تدري أين أنت؟أنت بين يدي بيوت أذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو و الآصال
رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و نحن أولئك .
فقال له قتادة:صدقت،و الله جعلني فداك،و الله ما هي بيوت حجارة و لا طين. (6)
و يؤيد ما رواه الصدوق في الخصال عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم:ان الله اختار من البيوتات أربعة ثم قرأ هذه الآية:
إن الله اصطفى آدم و نوحا و آل إبراهيم و آل عمران على العالمينذرية بعضها من بعض. (7) و (
و على هذا الحوار فالمراد من البيت،بيت الوحي و بيت النبوة،و من يعيش في هذه البيوت من رجال لهم الأوصاف المذكورة في الآية الكريمة.
هذا كله حول الأمر الأول.
و أما الأمر الثاني،أعني:ما هو المراد من الرفع؟فيحتمل وجهين:
الأول:أن يكون المراد الرفع المادي الظاهري الذي يتحقق بإرساء القواعد و إقامة الجدار و البناء،كما قال سبحانه:و إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسماعيل. (9) و على هذا تدل الآية على جواز تشييد بيوت الأنبياء و الأولياء و تعميرها في حياتهم بعد مماتهم.
الثاني:أن يكون المراد الرفع المعنوي و العظمة المعنوية،و على هذا تدل الآية بتكريم تلك البيوت و تبجيلها و صيانتها و تطهيرها مما لا يليق بشأنها.قال الرازي:المراد من رفعها،بنائها لقوله تعالى:رفع سمكها فسواها (10) و ثانيها ترفع اي تعظم. (11) هذا كله حسب ما تدل عليه الآية،و أما بالنظر إلى الروايات فنذكر منها ما يلي:
1.روى الحافظ السيوطي عن أنس بن مالك و بريدة،ان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قرأ قوله تعالى:في بيوت أذن الله أن ترفع فقام إليه رجل و قال:أي بيوت هذه يا رسول الله؟
فقال صلى الله عليه و آله و سلم:«بيوت الأنبياء».
فقام إليه أبو بكر و قال:يا رسول الله،و هذا البيت منها؟و أشار إلى بيت علي و فاطمة عليهما السلام.
فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم:«نعم من أفاضلها». (12)
2.روى ابن شهراشوب عن تفسير مجاهد و أبي يوسف،يعقوب بن سفين،قال ابن عباس في قوله تعالى :و إذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها و تركوك قائما (13) :إن دحية الكلبي جاء يوم الجمعة من الشام بالميرة،فنزل عند أحجار الزيت،ثم ضرب بالطبول ليؤذن الناس بقدومه،فمضوا الناس إليه إلا علي و الحسن و الحسين و فاطمة عليهم السلام و سلمان و أبو ذر و المقداد و صهيب،و تركوا النبي صلى الله عليه و آله و سلم قائما يخطب على المنبر،فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم:قد نظر الله يوم الجمعة إلى مسجدي فلو لاهؤلاء الثمانية الذين جلسوا في مسجدي لأضرمت المدينة على أهلها نارا،و حصبوا بالحجارة كقوم لوط،و نزل فيهم رجال لا تلهيهم تجارة. (14)
و قد وصف الإمام أمير المؤمنين عليه السلام هؤلاء الرجال الذين يسبحون في تلك البيوت،عند تلاوته:رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله:و إن للذكر لأهلا أخذوه من الدنيا بدلا،فلم يشغلهم تجارة و لا بيع عنه،يقطعون به أيام الحياة،و يهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين،و يأمرون بالقسط و يأتمرون به،و ينهون عن المنكر و يتناهون عنه فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة و هم فيها،فشاهدوا ما وراء ذلك،فكأنما اطلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه،و حققت القيامة عليهم عداتها،فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا،حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس و يسمعون ما لا يسمعون. (15)
تعليقات:
1ـ النور:36ـ .37
2ـ الكشاف:2/ .389
3ـ الزخرف: .33
4ـ البقرة: .125
5ـ الأحزاب: .34
6ـ البرهان في تفسير القرآن:3/ .138
7ـ آل عمران:33ـ .34
8ـ الخصال:1/ .107
9ـ البقرة: .127
10ـ النازعات: .28
11ـ تفسير الفخر الرازي:24/ .3
12ـ تفسير الدر المنثور:5/ .50
13ـ الجمعة: .11
14ـ البرهان في تفسير القرآن:3/ .139
15ـ نهج البلاغة:الخطبة .222
أهل البيت(ع) سماتهم و حقوقهم في القرآن الكريم ص 173
مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني