قد دلت الروايات المتضافرة على أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم ارتحل و قد نصب عليا عليه السلام للولاية و الخلافة،فأبان ولايته و ولاية من بعده من الأئمة في مواقف مختلفة،نذكر منها موقفين:
الأول:ان سائلا أتى مسجد النبي صلى الله عليه و آله و سلم و علي عليه السلام راكع،فأشار بيده للسائل،أي اخلع الخاتم من يدي،فنزل قوله سبحانه: إنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون . (1) و قد تضافرت الروايات على نزول الآية في حق علي عليه السلام و نقلها الحفاظ،منهم:ابن جرير الطبري (2) ،و الحافظ أبو بكر الجصاص الرازي (3) ،و الحاكم النيسابوري (4) ،و الحافظ أبو الحسن الواحدي النيسابوري (5) ،و جار الله الزمخشري (6) ،إلى غيرهم من أئمة الحفاظ و كبار المفسرين ربما ناهز عددهم السبعين.و هم بينمحدث و مفسر و مورخ.
و الذي يجب التركيز عليه هو فهم معنى الولي الوارد في الآية المباركة و الذي وقع وصفا لله سبحانه و لرسوله و من جاء بعده.
المراد من الولي في الآية هو الأولوية الواردة في قوله سبحانه: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم . (7) فالنبي صلى الله عليه و آله و سلم أولى من المؤمنين بأنفسهم و أموالهم،فهو بما انه زعيم المسلمين و وليهم،يتصرف فيهم حسب ما تقتضيه المصالح في طريق حفظ كيان الإسلام و صيانة هويتهم و الدفاع عن أراضيهم لغاية نشر الإسلام.
و ليست الغاية من هذه الولاية الموهوبة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم هي حفظ مصالح النبي صلى الله عليه و آله و سلم الشخصية،بل الغاية كما عرفت هي صيانة مصالح الإسلام و المسلمين.
فالولاية بهذه المعنى هي المراد من قوله سبحانه:إنما وليكم الله و رسوله و القرائن الدالة على تعين هذا المعنى كثيرة،نذكر منها ما يلي:
الأول:إذا كان المراد من الولي هو الزعامة،يصح تخصيصها بالله سبحانه و رسوله و من أعقبه،و أما لو كان المراد منه هو الناصر و المحب،فهو ليس مختصا بهؤلاء،لأن كل مؤمن محب للآخرين أو ناصر لهم كما يقول سبحانه:و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض. (
الثاني:ان ظاهر الآية ان هناك أولياء و هناك مولى عليهم،و لا يتحقق التمايز إلا بتفسير الولاية بمعنى الزعامة حتى يتميز الزعيم عن غيره،و هذا بخلاف ما لو فسرناه بمعنى الحب و الود أو النصر،فتكون الطوائف الثلاث عندئذ على حد سواء.
الثالث:إذا كان المراد من الولي هو الزعيم،يصح تخصيصه بالمؤمن المؤدي للزكاة حال الصلاة،و أما لو كان المراد بمعنى المحب و الناصر و ما أشبههما يكون القيد زائدا،أعني:إعطاء الزكاة في حال الصلاة،فان شرط الحب هو إقامة الصلاة و أداء الزكاة،و أما تأديتها في حال الركوع فليس من شرائط الحب و النصرة،و هذا دليل على أن المراد فرد أو جماعة خاصة يوصفون بهذا الوصف لا كل المؤمنين.
الرابع:ان الآية التالية تفسير معنى الولاية،يقول سبحانه:و من يتول الله و رسوله و الذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون. (9) فان لفظة الذين آمنوا في هذه الآية هو الوارد في الآية المتقدمة،أعني:و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة،و على هذا يكون المراد من الولي أخذهم زعيما و وليا بشهادة ان حزب الله لا ينفك من زعيم يدبر أمورهم.
إلى هنا تبين ان الإمعان في القرائن الحافة بالآية تفسر معنى الولي و تعين المعنى و تثبت ان المقصود هو الزعيم،لكن من نكات البلاغة في الآية انه سبحانه صرح بولايته و ولاية رسوله و من جاء بعده و على ذلك صارت الولاية للثلاثة،و كان اللازم عندئذ أن يقول إنما أولياؤكم بصيغة الجمع لكنه أتى بصيغة المفرد إشارة إلى نكتة،و هي ان الولاية بالأصالة لله سبحانه و أما ولاية غيره فبإيهاب من الله سبحانه لهم،و لذلك فرد الكلمة و لم يجمعها،لكن هذه الولاية لا تنفك من آثار،و قد أشير إلى تلك الآثار في آيات مختلفة،و إليك بيانها :
1.أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم. (10)
فان لزوم إطاعة الله و الرسول و غيرهما من آثار ولايتهم و زعامتهم،فالزعيميجب أن يكون مطاعا.
2.و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم . (11)
فينفذ قضاؤه سبحانه و الذي هو من آثار الزعامة،و نظيره قوله سبحانه:إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله. (12)
3.فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم. (13) فحرمة مخالفة أمر الله و رسوله من توابع زعامتهم و ولايتهم.
فهذه الحقوق ثابتة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم بنص القرآن الكريم و لمن بعده بحكم انهم أولياء بعد النبي فان ثبوتها للنبي صلى الله عليه و آله و سلم لأجل ولايته فإذا كانت الولاية مستمرة بعده فيتمتع كل ولي بهذه الحقوق.
و بهذا تبينت دلالة الآية على ولاية علي عليه السلام و انها حق من حقوق أهل البيت عليهم السلام لصالح الإسلام و المسلمين.
نعم بعض من لا تروقهم ولاية أهل البيت عليهم السلام و زعامتهم حاولوا تضعيف دلالة الآية بشبهات واهية واضحة الرد،و قد أجبنا عنها في بعض مسفوراتنا فلنكتف في المقام بهذا المقدار .
غير انا نركز على نكتة و هي ان الصحابة الحضور لم يفهموا من الآية سوى الولاية و لذلك صب شاعر عهد الرسالة حسان بن ثابت ما فهمه من الآية بصفاء ذهنه في قالب الشعر،و قال :
فأنت الذي أعطيت إذ أنت راكع
فدتك نفوس القوم يا خير راكع
بخاتمك الميمون يا خير سيد
و يا خير شار ثم يا خير بايع
فأنزل فيك الله خير ولاية
و بينها في محكمات الشرائع (14)
و الظاهر مما رواه المحدثون ان الأمة الإسلامية سيسألون يوم القيامة عن ولاية عن ولاية علي عليه السلام،حيث ورد السؤال في تفسير قوله سبحانه:وقفوهم إنهم مسؤولون. (15)
روى ابن شيرويه الديلمي في كتاب«الفردوس»في قافية الواو،باسناده عن أبي سعيد الخدري،عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم:وقفوهم إنهم مسؤولون عن ولاية علي بن أبي طالب. (16)
و نقله ابن حجر عن الديلمي،و قال:وقفوهم إنهم مسؤولون أي عن ولاية علي و أهل البيت،لأن الله أمر نبيه صلى الله عليه و آله و سلم أن يعرف الخلق أنه لا يسألهم على تبليغ الرسالة أجرا إلا المودة في القربى،و المعنى انهم يسألون هل و الوهم حق الموالاة كما أوصاهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم أم أضاعوها و أهملوها فتكون عليهم المطالبة و التبعة . (17)
الثاني (18) :من تلك المواقف هو يوم الغدير و هو أوضحها و آكدها و أعمها و قد صدع بالولاية في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة الحرام في منصرفه من حجة الوداع،و قد قام في محتشد كبير بعد ما خطب خطبة مفصلة و أخذ من الناس الشهادة على التوحيد و المعاد و رسالته و أعلن انه فرط على الحوض،ثم ذكر الثقلين و عرفهما،بقوله:«الثقل الأكبر:كتاب الله،و الآخر الأصغر :عترتي،و ان اللطيفالخبير نبأني انهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض»،ثم قال:«أيها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟»قالوا:الله و رسوله أعلم،قال:«إن الله مولاي،و أنا مولى المؤمنين،و أنا أولى بهم من أنفسهم،فمن كنت مولاه فعلي مولاه»،ثم قال:«اللهم وال من والاه و عاد من عاداه،و أحب من أحبه،و أبغض من أبغضه،و انصر من نصره،و اخذل من خذله،و أدر الحق معه حيث دار،ألا فليبلغ الشاهد الغائب».
ففي هذه الواقعة الفريدة من نوعها أعلن النبي ولاية علي عليه السلام للحاضرين و أمرهم بإبلاغها للغائبين،و نزل أمين الوحي بآية الإكمال،أعني:قوله سبحانه:
اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي. (19) فقال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم:«الله أكبر على إكمال الدين،و إتمام النعمة،و رضى الرب برسالتي،و الولاية لعلي من بعدي».
ثم طفق القوم يهنئون أمير المؤمنين عليه السلام و ممن هنأه في مقدم الصحابة:الشيخان أبو بكر و عمر،كل يقول:
بخ بخ لك يابن أبي طالب أصبحت و أمسيت مولاي و مولى كل مؤمن و مؤمنة.
و قد تلقى الصحابة الحضور ان النبي صلى الله عليه و آله و سلم أوجب ولايته على المؤمنين،و قد أفرغ شاعر عهد الرسالة حسان بن ثابت ما تلقاه عن الرسول،في قصيدته و قال:
فقال له قم يا علي فانني
رضيتك من بعدي إماما و هاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه
فكونوا له أنصار صدق مواليا
قد ذكرنا مصادر الخطبة و الأبيات عند البحث عن الإمامة فراجع. (20)
تعليقات:
1ـ المائدة: .55
2ـ تفسير الطبري:6/ .186
3ـ أحكام القرآن:2/ .542
4ـ معرفة أصول الحديث: .102
5ـ أسباب النزول: .113
6ـ الكشاف:1/ .468
7ـ الأحزاب: .6
8ـ التوبة: .71
9ـ المائدة: .56
10ـ النساء: .59
11ـ الأحزاب: .36
12ـ النساء: .105
13ـ النور: .63
14ـ مناقب الخوارزمي:178،كفاية الطالب للكنجي:200،تذكرة ابن الجوزي: .25
15ـ الصافات: .24
16ـ شواهد التنزيل:2/ .106
17ـ الصواعق المحرقة: .149
18ـ تقدم الأول في صفحة: .129
19ـ المائدة: .3
20ـ راجع مفاهيم القرآن:الجزء العاشر.
أهل البيت(ع) سماتهم و حقوقهم في القرآن الكريم ص 129
مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني